ليس هناك دراسة علمية يُعتد بها تستكشف الدبكة ومراحل تطورها واختلافها بين الشعوب، لكن، يوجد بعض الشذرات المنثورة التي تحاول تفسير سر هذه الرقصة الجماعية.
وتقسم الدبكة إلى عدة أقسام أساسية، مع أنها كلها تعتبر دبكة دلعونا لأن مغني الدبكة يعتمد بشكل أساسي على أغنية الدلعونا وما على وزنها كأغنية ظريف الطول وغيرها (مع أن كل أنواع الدبكة المعروفة في شمال فلسطين ولبنان وحوران هي نفس الدبكة ونفس الحركات الأساسية ولكن بترددات وسرعات مختلفة).
أما الجفرا التي يتغنى بها الفلسطينيون فترمز لـ"الإلهة عنات" الكنعانية"، زوجة "الإله إيل".
وخلال البحث عن أصل الدبكة، طُرِحَ
العديد من التحليلات والتأصيل للدبكة الفلسطينية، كان منها أن أهالي بئر السبع في جنوب
فلسطين كانوا في استسقائهم يقلدون صوت المطر بأرجلهم، وكانت هذه أولى البدايات للدبكة،
لكن هذه المعلومات بشكل عام لا يمكن التأكد منها بصورة قاطعة، وكل ما كتب حول هذا الموضوع
هو محاولات استنتاج فقط.
يعلو قرع الطبل وتتعالى معه خبطات الأقدام
بالأرض، كأنها خبطة واحدة في حالة جمعية يندمج الراقصون المشتركون فيها، رجالا ونساء،
في جسد واحد، فتمسي الأقدام قدما واحدة تُتابع قائد الرقصة الذي يمسك سبحة يلوحها في
الهواء، لتكون رابطا معنويا له تساعده على الاحتفاظ بالنسق الذي يسير عليه، حتى يهتدي
به بقية الراقصين.. تلك هي رقصة الدبكة المشهورة في بلاد الشام.
ويرى الموسيقار اللبناني الراحل زكي
ناصيف أن الدبكة ليس لها تاريخ، وأنها نتجت من خبط الأرجل بأسطح المنازل الترابية لتسويتها
حتى لا تتسرب الأمطار منها مع نطقهم "دِ العونة.. دِ العونة" السريانية أي
العونَ العونَ، فصارت الدلعونا والهوارة وغيرهما من متلازمات الدبكة ترافقها حتى تُنشط
الراقصين وتبث الحماس في نفوسهم ويكون الخبط بروح موحدة.
لكل منطقة دبكتها، وفي كل منها تسمية
خاصة. تتبعثر التسميات والأنواع، لكنها تتشابه في الحركات واعتمادها على الأرجل، وتختلف
في الإيقاع والحركات وعدد الخطوات، فعناصرها الأساسية تتجلى في حركة منتظمة بإيقاعات
متوازنة، تتواتر الحركة فيها دوريا بلغة تعبيرية تعتمد على حركات الجسد الجماعي، فترتفع
الأرجل مع بعضها ويكون الخطو متباعدا متساويا حتى يصل إلى خبط الأرض في اللحظة ذاتها،
فيحسبها السامع خبطة قدم واحدة.
طقس فينيقي
هذا التراث غير المادي استمر مع الفينيقيين
مع مزجه بروحانيات محلية تتماشى مع بيئتهم، وبما أنهم أول المسرحيين في تمثيليات الربيع
فقد أدخلوا إليها رقصات إيحائية تتماشى مع النص الدرامي، فأدوا تمثيليات شعرية تصور
حكاية الخِصب وقيامة الإله، وثمة رسومات ومنحوتات ونقوش متفرقة تصور كهنة يمسكون بأيدي
بعضهم يرقصون رقصة تُشابه الدبكة الحالية، مع عازف مزمار يؤدي أنغاما ترافقهم.
فهذه الرقصة لا تخلو من مدلول مقدس،
لأن سياقها يكون بحركة دائرية تدور حول نقطة ما تمثل المركز والمحور، كأن هناك شيئا
في الوسط، ونلمح هذا الأثر في كثير من الرقص الروحاني، ولا سيما الصوفي. فالحضارات
القديمة كانت ترقص وتدور حول وثن يمثل أحد الآلهة للتعبير عن عظمته وتقديم الإمتنان
له.
ولعل فقدان معنى كلمة دبكة في اللغة
العربية يعزز فرضية أصولها العائدة إلى الحضارات القديمة، فهذه الكلمة مشتقة من اللغة
السريانية لأن معنى دبك:
رقص.
الدبكة من السريانية (ܕܲܒܘܼܩܵܐ) أي تبع ولحق، إذ إن الراقصين يلحقون بعضهم في حركاتهم أو من (دبوقا ܕܲܒܘܼܩܵܐ) أي لصق به، لأن الراقصين يلتصقون ببعضهم ممسكين الأيادي ويضعون الكتف جنب
الكتف.
أما الدبكة: رقص شعبي ريفي (يقصد ريف
سوريا) فيه خطو متقارب متحد متزن، ثم يضربون أرجلهم بسرعة في الأرض، ويقفزون إلى غير
موقفهم الأول قفزة واحدة وهكذا دواليك حتى تتم الحلقة دروتها.
إذاً أمست الدبكة في المراحل السابقة
تراثا ريفيا، تسللت إليه بعد انهيار الإمبراطوريات السابقة التي مارست طقوسا تتضمنها
في دراميات تجسدها على المسارح في المدن الكبرى، فانحرفت إلى الريف بعدما صارت المدنية
تنفر منها، لكنها عادت اليوم إلى الإنتشار في المدن مع الهجرة التي قصدتها، ولنزوع
الناس إلى التقاليد والكلاسيكيات حنينا إلى الماضي.
بحسب منال ظفُّور:
"ورد بأسطورة عشتار وعقيدة الخصب
السوريّة (الفينيقيّة عملياً، فينيق ترجمة) أنّه عندما اختطفت إلهة الموت، أريشكيجالا،
إله الخصب، تموز، وذهبت به إلى العالم السفليّ، اعتصر الحزن قلب إلاهة الحياة، عشتار،
فبدأت تضرب الأرض بقدميها لتزعج إلاهة الموت التي تتخذ من أسفل الأرض مسكنًا هادئًا
لها، ولم تكتف عشتار بذلك، بل طلبت من الجميع أن يفعلوا مثلها عسى أن تعيد أريشكيجالا
حبيبها لها، فأحاط الجمع كلّه عشتار على شكل دائرة وبدؤوا يطوفون حولها وهم يدبدبون،
وكان ذلك على إيقاع غناء الحدو الحزين للإلاهة عشتار. والمقصود بالحدو الزجل. وكان
هذا أصل الدبكة".
وفي صفحة "الحضارة السورية
المجهولة"، يقول تيسير خلف الآتي:
"هذا الرسم (أعلاه)، يقال إنه مأخوذ عن
أصل فينيقي عثر عليه في جزيرة قبرص وموجود في المتحف البريطاني (أوّل صورة في الموضوع أعلاه، مع تسجيل فارق هو وجود خمسة أشخاص لا ثلاثة بحلقة الدبكة إضافة إلى الزمّار(ة) في الوسط، وربما، يعود هذا الرسم لقطعة أثرية أخرى). ونرى فيه ثلاثة من
الكهنة الفينيقيين يؤدون رقصة طقوسية تشبه الدبكة بقبعاتهم المخروطية التي رأيناها
عند كهنة تدمر ودورا أوروبوس ونيحا ووادي العاصي والجولان وحوران. وفي الوسط عازف المجوز.
في أرياف بلاد الشام الغربية عموما
(سوريا ولبنان وفلسطين) كانوا يسمون مكان الدبكة مرسح. وقد تحققت أن هذه التسمية ظلت
متداولة حتى الخمسينيات أو الستينيات من القرن العشرين.. وهي كما هو ملاحظ، تحوير بسيط
عن كلمة مرزح بحرف الزاي، والذي يعني بالفينيقية الكنعانية والتدمرية والنبطية:
المكان الذي تؤدى فيه تمثيلية دينية كانت جزءًا من
الطقوس.
وحين أراد مارون نقاش عام 1849 أن يجد
مصطلحًا محليًا لإسم التياترو، إقترح إسم مرسح واستخدمه وشاع الإسم حتى أواسط القرن
العشرين، حين قرر مجمع اللغة العربية في القاهرة إعتماد تسمية مسرح بدل مرسح.
فالمرسح أي مكان الدبكة في لهجاتنا
العامية هو نفسه المرزح الفينيقي - التدمري - النبطي.. ويبدو أن الدبكة كانت جزءًا
من هذا الطقس.
وفي تدمر عثر على اسم فرقة مكونة من
عدة أشخاص أطلقوا على أنفسهم لقب بني مرزح.. أي أبناء المرزح.. والمجوز معروف على نطاق
واسع حتى الآن".
وعلى إعتبار أن الأهازيج أساسيّة
في الدبكات، نجد حتى أصولها فينيقيّة، مثل "الميجانا" و"أم
الزولف" على سبيل المثال لا الحصر:
"مثل كل التراث المنقول، اختلف
في معنى وأصل الميجانا.
ذكر مارون عبود إلى أن أصله منحوت من
(يا ما جانا) أي "ما أكثر ما أصابنا".
كما ذكر لحد خاطر أنها عبارة
"يا ماجنة" من المجون بمعنى أيتها العابثة المستهترة.
أما أنيس فريحة فيردها إلى أصل سرياني
من جذر "نجن" الذي يعني "الغناء". وذكر أيضا أنها "يا ما
جنى" أي "ما أكثر ما ظلم"، و"ميجانة" وهي كلمة متحوّلة من
"مرجانة" كما ذكر أن "ميجانا" و"عتابا" هما بنتين لأمير
كانتا تتغّنيان بمواضيع عاطفية.
أما الموسيقار مالك جندلي فيردها إلى
أصل فينيقي التي تعني كرامة".
بحسب السيد حسن إسماعيل:
"جميع
أنغام الدبكة الشعبية كانت تقوم على أغنية "أم الزلف" التي تعني في قاموس
"اللغة العربية" الروضة أو المكان المعشب المزدهر أو الثوب الملون المزركش،
والزلف هي كلمة آرامية من أصل فينيقي تعني كما قلت "الثوب المزركش" حيث كان
السوريون القدامى يلبسون آلهتهم عشتار ثوباً ملوناً مزركشاً في "عيد الربيع"
ويغنون لها "يا أم الزلف"".
الموضوع أعلاه مأخوذ من مصادر عديدة، بتصرُّف بسيط، هي:
مصدر 1 مصدر 2 مصدر 3 مصدر 4 مصدر 5 مصدر 6
لنشاهد بعض الدبكات المتنوِّعة، وبينها رقصات فلامنكو إسبانية وأخرى أرمنية وأخرى يونانية، تحضر الدبكة فيها بشكل أو بآخر، في الفيديوهات التالية:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق