الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية
ماكس فيبر - ترجمة: محمد علي مقلّد - مراجعة جورج أبي
صالح
مركز الإنماء القومي - بيروت
الفصل الأول: المسألة
1. الانتماء الديني والشرائح الاجتماعية
الأقليات القومية أو الدينية، التي تجد نفسها في حالة
"المُسيطَرْ عليها" من قبل جماعة مُسيطِرَة، تنشدُّ عادة بقوة إلى
النشاط الاقتصادي وذلك بفعل استبعادها، كرهاً أم طوعاً، عن المواقع السياسية
النافذة. ويبحث أفرادها الموهوبون أكثر عمّا يُشبع طموحاً لديهم لا يجد لنفسه
المجال في خدمة الدولة.
2. "روح" الرأسمالية
إذا كانت المسألة مسألة وجود شيء يمكن أن تنطبق عليه هذه
العبارة بشكل عاقل، فليس المقصود سوى "فرد تاريخي"، أي مركّب من
العلاقات الحاضرة في الحقيقة التاريخية والتي نجمعها، بمقتضى مدلولها الثقافي، في
كلٍّ مفهوميّ.
النهم إلى المال قديم قدم الإنسان.
إنّ النقص المطلق في الأمانة، والانانية والطمع، والشراسة
في طلب الربح هي كلها ملامح مميزة في البلاد التي بقي فيها التطور الرأسمالي
البرجوازي، بالمقياس الغربي، متخلفاً.
إنّ القدرة على تركيز الفكر واعتبار العمل "واجباً
أخلاقياً" هما امران متلازمان هنا بسهولة ومقترنان بذهنية اقتصادية، تُحسن
حساب إمكانية الكسب الأكثر ارتفاعاً، مع قدرة على السيطرة على الذات، وصبر من
شأنهما رفع نسبة المردود بشكل ملحوظ. إنها التربة الأكثر استعداداً لتقبل هذا
التصور عن العمل، بصفته غاية في ذاته، استجابةً لدعوة داخلية، وهذا ما تتطلبه
الرأسمالية.
يميز
سومبارت في مقولاته حول تطور
الرأسمالية، بين أكبر إثنين من المباديء الموجهة في التاريخ الاقتصادي:
"إشباع الحاجات" والكسب.
في أيامنا
لا علاقة إطلاقاً بين المعتقدات الدينية والسلوك الحياتي، وإذا ما أُتيح لمثل هذه
العلاقة أن توجد فهي سلبية في الغالب، على الأقلّ في ألمانيا. إن الأفراد المشبعين
حاليا بروح الرأسمالية هم عادة لا مبالون، إذا لم نقل معادين، للكنيسة.
إن المصالح
التجارية والاجتماعية والسياسية هي التي تميل إذن إلى تحديد الأفكار والتصرفات؛
ومن لا يكيف سلوكه مع شروط النجاح الرأسمالي يمضي في طريق الخسارة، أو على الأقل
يعجز عن التطور.
نعت القديس
توما البحث عن الكسب بأنه عمل شائن!
قدمت
الكنيسة الكاتوليكية تنازلات جدية إلى القوى الرأسمالية التي كانت تقيم معها
علاقات حميمة جداً في الحاضرات والمدن الإيطالية.
ربما يبدو
أن نهوض الروح الرأسمالية يصبح مفهوماً بسهولة أكثر إذا اعتبرناه جزءاً من تطور
العقلانية بمجملها؛ ويمكن استنباطه من مواقف مبدئية حول قضايا الوجود الأساسية.
ينبغي إذّاك اعتبار البروتستانتية تاريخياً مجرد "مرحلة سابقة" من فلسفة
عقلانية صرف.
الحق يقال،
ينبغي أن يتصدر هذا المبدأ البسيط، إنما المنسي غالباً، كل دراسة حول العقلانية:
يمكن للحياة أن تتعقلن بالتوافق مع وجهات نظر نهائية شديدة التنوع، وضمن اتجاهات
شديدة الاختلاف. إن العقلانية هي مفهوم تاريخي يتضمن عالماً كاملاً من التناقضات.
وعلينا أن نبحث عن الروح التي ولد منها هذا الشكل الملموس من الفكر ومن الحياة
العقلانيين.
ليون باتيستا ألبيرتي: عبقري عصر النهضة وإلى جانب
كتاباته النظرية في الرياضيات والنحت والرسم وفن العمارة والحب (كره النساء)؛ كتب ألبيرتي أيضاً مؤلفاً من أربع مجلدات حول إدارة شؤون المنزل.
3. فكرة
الشغل عند لوثر. اغراض البحث
إن تخطي
المرء قيم الحياة الدنيا بالتقشف الرهبني ليس هو الوسيلة الوحيدة للعيش بطريقة
ترضي الله. بل تكمن الوسيلة في أن يقوم المرء بواجباته في الحياة بما يتوافق مع
موقعه الاجتماعي، هذه الواجبات التي تتحول بالتالي إلى نوع من الإلهام أو الاستجابة
الداخلية.
لا تكون
حياة الرهبنة، في نظر لوثر، خالية فحسب خلواً تاماً من القيم، باعتبارها وسيلة
لتبرئة النفس أمام الخالق، بل هي تصرف الإنسان أيضاً عن واجباته الدنيوية، وتظهر،
في نظر لوثر، كنتاج للأنانية وقساوة القلب. على النقيض من ذلك، يبدو إنجاز المشاغل
الوظيفية الدنيوية، في نظره، تعبيراً شكلياً عن حبُّ القريب، وهو ما يبرره بهذه
الملاحظة القائمة على أن تقسيم العمل يرغم كل فرد على العمل من أجل الآخرين.
كم هو بعيد
هذا التصوُّر عن عقلية باسكال التأملية، بحقدها العميق وكرهها لكل نشاطية دنيوية
ينكر لها أي قيمة، ولا يرى فيها، وهو ما يقتنع به داخلياً، سوى الغش والباطل.
لا يمكن
"لروح الرأسمالية" أن تنسب إلى لوثر، لا بالمعنى الذي أضفيناه على هذه
العبارة حتى الآن، ولا بأيّ معنى آخر.
بما أنه كان
يعتقد أن المهنة هي من طبيعة المخلوق، فقد سيطر لدى لوثر تصور قريبا جداً من
اللامبالاة الأخروية كما عرفت عند القديس بولس، وذلك في السنوات الأولى من عمله
كمصلح فيما يتعلق بالأمور الدنيوية.
لكن لوثر
ألحّ على ربط كل نشاط بالأمر الإلهي، ولهذا فشل لوثر فشلاً ذريعاً في إقامة صلة
جديدة، أو على الأقل، صلة تقوم على مباديء أساسية، بين المشاغل الوظيفية والمباديء
الدينية.
اعتبرت
الكاثوليكية الكالفينية، وما زالت تعتبرها في أيامنا هذه، الخصم الحقيقي. يمكن
تفسير ذلك، من دون شك، بأسباب سياسية صرف.
لنقل ذلك
للمرة الاخيرة:
لم تشكل برامج الإصلاح الأخلاقي، بالنسبة لأي واحد من المصلحين،
بمن فيهم مينو، فوكس، ويسلي، الشاغل المسيطر؛ فهؤلاء الأشخاص
لم يكونوا، على أي مستوى، مؤسسي مجتمعات من أجل "الثقافة الأخلاقية"،
ولا الممثلين لأشكال الإصلاح الاجتماعي الانسانوي، أو الممثلين للمثل الثقافية. إن
خلاص النفوس - وحده - هو الذي شكل المحور في حياتهم وأعمالهم. وقد ترسخت وتثبتت
هنا أهدافهم الاخلاقية، والتجليات العملية لعقائدهم، ولم تكن سوى النتائج لدوافع
دينية صرف. لهذا السبب علينا أن نتوقع أن تكون تأثيرات الإصلاح الديني على
الثقافة، في جانب أساسي منها، وعلى الأقل من وجهة نظرنا الخاصة، في الجانب الراجح،
بمثابة نتائج غير متوقعة، غير مرغوب فيها، لعمل المصلحين، نتائج بعيدة في الأغلب
عن كل ما كان مرسوماً لها أن تبلغه، ومتناقضة أحياناً مع هذه الغاية.
يجب أن نحرر
أنفسنا من الاعتقاد بأن الإصلاح الديني يمكن أن يستنبط، بصفته "ضرورياً من
الناحية التاريخية"، من التحولات الاقتصادية. إن واقع كون أي شكل من أشكال
تنظيم الرأسمالي أقدم من الإصلاح الديني كافٍ لدحض هذه المقولة.
الفصل
الثاني: أخلاق الشغل في البروتستانتية النسكية
1. الأسس
الدينية في النسكية الدنيوية
تاريخياً،
هنالك أربعة مصادر أساسية للبروتستانتية النسكية (بالمعنى الذي تستخدم فيه هذه
الكلمة هنا):
1-
الكالفينية بالشكل الذي اتخذته في الأنحاء الأساسية من
أوروبا الغربية، أي المناطق التي خضعت لتأثيرها بشكل خاص خلال القرن السابع عشر.
2-
التقوِّية.
3-
الميتودية.
4- الطوائف
المتحدرة من الحركة المعمدانية.
في الأساس
كانت الكالفينية والمعمدانية على طرفي نقيض، غير أنهما دخلا في علاقة حميمة في
معمدانية نهاية القرن السابع عشر؛ فمنذ بداية القرن لم يعد تدرج الفروقات من
الواحدة إلى الأخرى واضحاً في الطوائف المستقلة في انكلترا وهولندا.
الحركة
النسكية التي أشير لها بكلمة "الطهرية"، بالمعنى الفضفاض للكلمة، في صفوف
أتباعها، لا سيما الأكثر حزماً منهم، قد تعرضت للانكليكانية حتى في أسسها.
إن المؤلفات
الأدبية المهملة بالنسبة إلى خلاص الروح، وبشكل خاص كتب الذمامة لدى كافة الطوائف،
قد تأثرت ببعضها تأثراً مبتادلاً على مر الأيام؛ وهي تنطوي فيما بينها على تماثلات
حادة رغم الخلافات الواضحة جداً في ممارسة الحياة اليومية.
أ.
الكالفينية
هي المعتقد
الذي باسمه خيضت، في القرنين السدس عشر والسابع عشر، معارك سياسية وثقافية كبيرة
في البلدان الرأسمالية الأكثر تطوراً: هولندا، انكلترا وفرنسا. ولهذا السبب نبدأ
الحديث بها.
يكون
المعتقد الكالفيني الأكثر تميُّزاً هو مذهب الجبرية.
لا وسيلة
سحرية، أو بالأحرى لا وسيلة، أياً تكن الوسيلة، من شأنها أن تؤدي إلى أن يتمتع
بنعمة الله من أمر الله بمنعها عنه.
إن عزلة
الإنسان الداخلية، ممزوجة مع عقيدة الاستعلاء المطلق القاسية لله، ومع تفاهة كل ما
هو جسديّ، تشكل من جهة، أساس موقف الطهرية الجذري في سلبيته إزاء كل صنف من
العناصر الحسية أو العاطفية في الثقافة والدين (الذاتاني) (عناصر معتبرة غير مفيدة
للخلاص ومثيرة أوهاماً عاطفية وأباطيل وثنية)؛ وبذلك تقصي العزلة كل احتمال لثقافة
الحواس.
ب. التقوية
إن مذهب
الجبرية هو، تاريخياً، نقطة انطلاق الحركة النسكية المسماة عادة
"تقوية". طالما أن هذه الأخيرة استمرت داخل الكنيسة اللوثرية، فإنه يكاد
يكون مستحيلاً وضع حد دقيق بين الكالفينيين التقويين وغير التقويين.
تعزز توجُّه
يقود إلى الرغبة في التمتع بالنعيم الأبديّ بدءاً من الحياة الدنيا، بدل خوض كفاح
نسكي بهدف الحصول عليه في الحياة الآخرة.
ليست هذه
التقوية على كل حال، من وجهة نظرنا، سوى دليل تأثير مارسه أسلوب حياة مثقف مراقب
منهجياً أي إسلوب نسكي، في حقل التدين غير الكالفيني.
نضيف أن
العقلنة العملية للحياة، ارتباطاً بالمنفعة، هي أيضاً عنصر أساسي في فلسفة
زنزندورف. وتنجم هذه العقلنة، في نظره وفي نظر غيره من التقويين، من جهةن عن الكره
الشديد للتأملات الفلسفية المعتبرة خطيرة على الإيمان، وعما يقابل ذلك من تفضيل
للمعرفة التجريبية، ومن جهة ثانية، عن حسّ
سليم فطن من جانب مبشر محترف. فقد كانت الأخوية في آن واحد مركزاً للتبشير
ومشروعاً تجارياً.
جـ.
الميتودية
إن
الميتودية، هذه الحركة الأنكلو-أميركية التي تقابل التقوية الأوروبية، تتميز، هي
أيضاً، بالترابط بين تدين عاطفي - ذي نمط نسكي أيضاً - وبين لامبالاة متزايدة من
قبلها حيال الأسس المعتقدية الكالفينية، بل رفضها هذه الأسس.
بإمكاننا،
في النقاش التالي، اهمال الميتودية، لأنها كنتاج متأخر، لم تضف شيئاً جديداً على
تطور فكرة الشغل.
د. الطوائف
المعمدانية
ظهرت خلال
القرنين السادس عشر والسابع عشر من خلال المعمدانيين والمعمدانيين الجدد المنونيت
(نسبة إلى مينو سيمونيس) ولا سيما الصاحبيين. مع هؤلاء ندخل في علاقة مباشرة
مع جماعات دينية تقوم الأخلاق عندها على أسس مختلفة، من حيث المبدأ، عن الأسس التي
تقوم عليها الأخلاق الكالفينية.
ولكن، بعد
دخول المعمدانية أكثر فأكثر في الحياة المهنية اليومية، صارت الفكرة، القائلة بأن
الله لا يتكلم إلا إذا صمت المخلوق، تعني أن الفرد كان يتربى على أن يزن بصفاء
أعماله وأن يضبطها بعد عملية فحص ضمير دقيقة. وأما الطوائف المعمدانية الأكثر
حداثة، طوائف الصاحبيين بشكل خاص، فقد اعتمدت هذا السلوك الهاديء المعتدل المتميز
بدقة لا متناهية.
إن المنهج
الواعي والهاديء في السلوك المعمداني يتلخص إذن بالتشديد قدر الممكن على اختيار
المهن غير السياسية.
2. النسكية
والروح الرأسمالية
يشكل كتاب
ريتشارد باكستر تحت عنوان "المرشد المسيحي"، الذي يتوافق مع تجربته
العملية في رعويته، الخلاصة الأكثر إكتمالاً للاهوت الأخلاق الطهري.
يُبشّر
باكستر بحماس منقطع النظير بالعمل اليدوي أو الفكري. فقد أثبت العمل منذ زمن بعيد
كونه وسيلة نسكية. وقد نوهت الكنيسة الغربية، بذلك، بشكل دائم. وذلك بالتعارض، ليس
فقط مع الشرق، بل مع جميع الأنظمة الرهبنية في العالم كله تقريباً.
ليس الإنسان
سوى مدير للثروات التي أنعم الله بها عليه.
تتعارض
النسكية البروتستانتية، التي تمارس تأثيراً في الحياة الدنيا، تعارضاً حاداً مع
التمتع العفوي بالثروات، وتكبح الاستهلاك، لا سيما في مجال الأشياء الكمالية. وفي
المقابل، يكمن مفعولها البسيكولوجي في تخليص الرغبة بالكسب من كوابت الأخلاق
التقليدوية. حيث اعتبرت الكسب كأمر يريده الله. وكما يقول باركلي عن عمد، وهو كبير
المنافحين الصاحبيين، وبالتوافق مع الطهريين، إن الصراع ضد إغواءات الجسد والتبعية
للثروات الخارجية لا يستهدف أبداً الكسب العقلاني بل استخدام الأملاك استخداماً
عقلانياً.
ليس التقشف
هو ما ينبغي فرضه على الملاكين، بل استخدام ثرواتهم لغايات ضرورية ونافعة.
كلام جون
ويسلي في الصفحتين 144 - 145 هام للغاية
الطوائف
البروتستانتية وروح الرأسمالية
في القرن
التاسع عشر، طيلة المرحلة الاستعمارية البريطانية، في مناطق وسط انكلترا الجديدة،
وفي ماساشوستس خصوصاً، كانت الطائفة الدينية هي التي تحدد المواطنية أو
اللامواطنية السياسية.
وفي العصر
الوسيط أيضاً، كان بإمكان المسيحي وحده أن يطالب بحق المواطنية الكاملة.
ملحوظة: ننوه إلى أنّ الغاية من هذا الموضوع هو عرض لأفكار بعض الكتب والتشجيع على القراءة بالعموم دون التعليق عليها، كما أن ما نختاره من أفكار من أيّ كتاب هو لا يختصر الكتاب ولا يعني عدم وجود أفكار هامة أخرى فيه .. اقتضى التنويه!
قد يهمكم الإطلاع على مواضيع ذات صلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق