في هذا الموضوع الجديد من سلسلة
"البُستان التطوريّ" شيء مُختلف عمّا حدث في المواضيع السابقة والمنشورة
حتى الآن، فلأوّل مرّة، سنتحدث حول نوعين لا نوع واحد، بذات الوقت. ويحصل هذا لسببين، هما:
السبب الأوّل: لم تكن التغيرات في النوعين كبيرة كالتغيرات التي رأيناها في نباتات سابقة.
السبب الثاني: هما نوعان مُتعارضان
بشكل لبق فيما بينهما.
يمكن إضافة سبب ثالث، فقد حان
الوقت للتكلُّم عن القطّانيّات أو البقولية (الحبوب التي تُطبخ كالعدس والحمّص والفول
واللوبياء .. قاموس المورد اسباني عربي)!
العدس
والحمّص، إضافة للفاصولياء والصويا والبازلاء والفول وغيرها، هي نباتات تنتمي
الى عائلة القرنيّات، وهي مجموعة
ناجحة تشغل الترتيب الثالث في عدد أنواعها بين كاسيات البذور، وتأتي بالضبط خلف السحلبيات و
المُركّبات (فصيلة نباتية
من ذوات الفلقتين وحيدة القُعالة سفليّة الاسدية تُعتبر من اكبر الفصائل النباتية
.. قاموس المورد إسباني عربي). ليس صدفة العثور على 20000 نوع تقريباً حتى الآن
ضمن 700 جنس. من الأمور المثيرة أنّ قطانياتنا المُدجّنة قد سارت في خطّ شبيه بخطّ حبوبنا (قمح، شعير،
ذرة وأرز) خلال عملية تدجينها، ما يجعلها مفيدة لنا إنطلاقاً من وجهة نظر أصول
نباتيّة وتطوريّة.
تمتلك مجموعة القرنيات أسماء كثيرة، فهي
تسمى قطانيات وأصلها اللاتيني «lĕgūmen» عبارة عن مصطلح معناه "الذي لا يتغيّر بمرور الزمن". وهي معروفة تحت اسم fabáceas القادم من
المصطلح اللاتيني «faba»، وهي كلمة ما تزال مُستخدمة لليوم في شمال الجزيرة الايبيرية
للدلالة على الفاصولياء، مع انّه بالاصل قد أُطلِقَتْ كلمة «faba» الرومانيّة على
الفول.
كما تسمى بأسماء أخرى، يأتي أحدها من
المُصطلح اللاتيني «papilio» أي (الفراشة) وذلك بفضل شكل أزهارها
الجميلة. تتكوّن تلك الازهار من 5 بتلات متموضعه بصيغة
خاصة، تلتحم اثنتان منها جزئياً، حيث تغطيان أعضاء التكاثر بالزهرة وتشكلان ما
يشبه القاعده، فيما تتحرر بتلتان أخريتان لتحيطان
بتلك القاعده على شكل جناحين، وبتلة أخيرة
ذات حجم كبير، تموج خلف البتلات الأخرى وتسمى الراية. بالتفافها حول
القاعده، لدينا أعضاء التذكير "الأسدية" والتي تُحيط بدورها مجموعة أعضاء التأنيث في الزهرة، يتكوّن
الجهاز الذكري من عشرة أسدية، والتي يمكن أن تتحرر كلها أو تلتحم فيما بينها أو كلها مُلتحمة ما عدا واحدة منها.
جدول أساسي لزهرة القرنيّات. كمثال لدينا نوع البازلّاء أو الجلبانة
مقدمات
(1) العدس
يُعرف العدس المُدجّن الذي نتناوله في
العالم الآكاديمي تحت إسم:
Lens culinaris ssp culinaris Meiken
هو نبات صغير ذو مظهر شجيريّ، يبلغ طول ساقه من
20 الى 30 سنتمتر. يمتلك دورة حياة سنوية، يمكن أن يشهد نموّ سريع، حيث يبلغ سنّ
النضوج خلال فترة تمتد من 75 الى 100 يوم فقط. تُعطي أزهاره البيضاء الصغيرة
بعروقها الزرقاء الأصل لظهور بذرة أو بذرتين رقيقتين بشكل عدسة. هذه البذور
غنيّة بالبروتين والأملاح المعدنية (صوديوم، بوتاسيوم، حديد وزنك) وفيتامينات (بترتيب أهميتها: ب، ث، آ، ي وك) وهي غذاء لا يُستغنى عنه. إضافة لانّه وبفضل
احتوائها المُرتفع من الأحماض الامينية كالليسين أو اللايسين والتريبتوفان، وإذا جُمِع بالقمح او بالأرز،
فإنها تُكمل احتياجاتنا الى الحموض الامينية الاساسيّة. (في منطقة شرق
المتوسط توجد أكلتان شهيرتان تُصنعان من البرغل والعدس، والأرز والعدس، واسمهما
الشعبي "مُجدّرة" وهما أهمّ تعبير عن صحيّة غذاء أهالي تلك المنطقة ..
ودون علمهم بهذا طبعاً! .. فينيق ترجمة).
يوجد اهتمام بالغ بزراعة العدس. فهو
يُزرع بأكثر من 40 بلد، وقد بلغ الإنتاج العالمي منه 3.8 مليون طن سنويا بين العامين
2004 و2006 (بحسب معطيات منظمة الفاو 2008) وبمساحة مزروعه بلغت 4 ملايين هكتار. أهم ثلاثة مُنتجين للعدس: الهند،
كندا وتركيا، بينما لا تُنتِجُ أوروبا كاملة بالكاد 1% من الإنتاج العالمي من العدس.
نموذج من العدس المطبخي أو المعروف
العدس هو جنس نباتيّ قليل التنوّع
حيث يتواجد، يتزوّد بسبعة أزواج من الكروموزومات (2n = 14)، يتوزّع حول
البحر المتوسط. الأنواع البريّة التي تنمو في شبه الجزيرة الإيبيرية، هي: Lens nigricans (متوفرة نسبياً) و Lens lamottei (موجودة في قطاع المتوسط)، بينما في جزيرة مايوركا (جزر
الباليار) نجد نوع Lens ervoides. Lens culinaris، النوع المزروع
المُتأصِّل في المتوسط الشرقيّ.
تنوعات الجنس البرّي Lens وتوزعه
الجغرافي في العالم
هنا، يحضر سؤال حيويّ، انطلاقاً من وجهة
نظر تاريخيّة، ما هو السلف البريّ لعدسنا المزروع؟
أول شخص قد انطلق بحثاً عن إجابة،
هو عالمة النبات الروسيّة إيلينا إيفانوفا بارولينا Елена Ивановна Барулина، طالبة وزميلة
ولاحقاً زوجة عالم النبات والوراثة الروسي نيقولاي فافيلوف، الذي تركزت أبحاثه حول معرفة أصل وتطور نباتاتنا المزروعه.
تأسيساً على ميزات تشريحية، اقترحت
العالمة إيلينا، العام 1930، بأنّ السلف البرّي للعدس هو المعروف تحت إسم Lens orientalis (اليوم معروف باسم Lens culinaris ssp. Orientalis) ذو اصل شرق متوسطيّ. وللآن، يتفق كثير من الباحثين مع هذا
الطرح.
فلقد أثبتت دراسات جدعون لادزينسكي (سنتكلم عنه
عند حديثنا عن الحمّص) بأنّه تمّ تهجين نوع L. culinaris مع نوع L. orientalis دون ظهور أية
مشكلة (بعكس ما حدث مع كل أنواع الجنس Lens).
حديثاً، تأكَّدَ هذا الطرح وبشكل متكرر بواسطة علم الأحياء الجزيئيّ.
كيف هي تلك النبتة؟
بخلاف النباتات
الأخرى التي درسناها بهذه السلسلة، يتطابق نوع Lens culinaris ssp. Orientalis تقريباً مع نسخته المزروعة. حجمه أقلّ، فقط، بعدد
الوريقات في الورقة، في مساحة تلك الوريقات، تغطي "شعيرات" أوراقها
وسوقها، نادراً ما تُعطي أزهار بيضاء، بذورها صغيرة جداً (الميزة
الوحيدة التي تفرقها عن نسختها المزروعه في الطبقات الاثرية) ..الخ.
مثال دقيق لنوع العدس Lens culinaris ssp. Orientalis
(2) الحُمُّص
اسمه العلميّ، هو Cicer arietinum L، عبارة عن نمط شجيري لا يتجاوز إرتفاع نبتته النصف متر، وثماره
عبارة عن حبّات أو بذور، تُحاط كلّ حبّة واحدة بسنفة (السِنفة هي وعاء حبّ البقل كالفول
والعدس والحمص وغيرهم .. قاموس المورد إسباني عربي). تمتلك تلك البذور قيمة
غذائيّة عالية، فهي غنيّة بالبروتين والألياف وأملاح معدنية (نحاس، منغنيز، حديد
وتوتياء) والفيتامينات (بترتيب الاهمية: ب، ث، آ، ي وك). وكالعدس، فهي مًكمّل
ممتاز للحبوب.
نوع Cicer arietinum هو النوع الوحيد المزروع من جنسه. عبارة عن نبات يُزرع في 49 بلد.
يبلغ إنتاجه العالمي حوالي 8.6 مليون طنّ سنوياً (وفق معطيات منظمة الفاو 2006)
ويُزرَعُ على مساحة قدرها 11.2 مليون هكتار. أهم البلدان المنتجة له، هي: الهند والباكستان وتركيا؛ فيما تحتل إسبانيا الترتيب الحادي عشر بين الدول المُنتجة له.
بكل الاحوال، بالكاد يشكّل الإنتاج الأوروبي له ما نسبته 1% من الإنتاج العالمي.
نموذج من الحُمُّص Cicer arietinum L
ينضوي تحت
الجنس Cicer 44 نوع (9 ذات دورة حياة سنوية و35 ذات دورة حياة دائمة) وتنتشر
في جنوب غرب آسيا. يوجد في إسبانيا نوع بري واحد فقط من هذا الجنس وهو مستوطن.
النوع هو Cicer
canariense A. Santos & G. P. Lewis، عبارة عن عشبة
دائمة تعيش في أماكن رطبة على ارتفاعات 420 – 1535 متر عن سطح البحر. هو نوع
مستوطن حصرياً في جزيرتي لاس بالماس وتينيرفي (ضمن جزر الكانارياس)، مصنّف بكونه
"سريع العطب" وفق جدول الأنواع المهددة بالإنقراض في جزر كانارياس،
وبحسب القائمة الحمراء الصادرة العام 2008 حول الأزهار الوعائيّة الإسبانيّة.
نموذج من الحمّص البرّي المُستوطن في
كانارياس Cicer
canariense الموجود حصرياً في جزيرتي Palma و Tenerife
ما هو
أصل الحمّص؟
يأتينا أول الأجوبة من طرف جدعون لادينزسكي من معهد علم
وراثة النباتات في الجامعه العبرية في القدس المحتلة. حيث تركّزت أبحاثه حول
التغيرات التطورية التي اصابت النبتات خلال عملية تدجينها، وليس مصادفة أنه
مؤلّف كتاب Plant Evolution Under Domestication المنشور
العام 1998.
بحسب جدعون، ودراسات لاحقة تابعت
خطواته، السلف البري للحمّص المزروع، عبارة عن نوع نادر من الحمص البري
والمُكتشف من قبل جدعون ذاته والموجود في تركيا حصرياً. اسمه العلمي Cicer reticulatum Ladiz. وذات الامر يحصل مع العدس، وهو شبيه، في الشكل العام، مع
نسخته المزروعه.
ينمو هذا النوع في أراضي كلسيّة على ارتفاع 600-1500 متر عن سطح البحر، مشكلاً
لجماعات منتشرة مختلطة مع بقوليات أخرى بأراضي جافة تستقبل سنويا ما معدله 350 –
830 ميليمتر من الأمطار.
أثبتوا أنّ النوعين C. reticulatum و C. arietinum خصيبين فيما
بينهما، ما يعني، أننا فيما لو نقم بتهجينهما، فسنحصل على متحدّر خصب وقابل للحياة،
في الواقع، النوع C. reticulatum هو الوحيد
الذي يمكن تهجين حمصنا المزروع معه بنجاح. مع ذلك، لا يحدث هذا التهجين بصورة
طبيعية إطلاقاً، ولا يُعثر على الصيغ الهجينية (حتى متى تمتعت الصيغ المزروعه والبريّة بقرب مكاني).
هذا يحصل لانّ النوعين C. reticulatum كما C. arietinum نباتان
ذوي تلقيح ذاتيّ بارز، أي أنهما يخصبّان ذاتهما ويُنشَرُ غبار طلعهما عبر الرياح او
الحشرات لإلقاح أزهار أخرى. لهذا السبب، يعتبر دارسو تلك النباتات، كما يمكننا
رؤية هذا في المراجع، الحمص المزروع و"الحمص الشبكيّ" نوعين مختلفين.
تفاصيل زهرة لنوعCicer reticulatum Ladiz ، إنها
صورة من ضمن قليل من الصور التي أمكنني العثور عليها لهذا النبات
سفرة مُقتضبة عبر الزمن
متى بدأ تدجينه؟ كيف حدث ذلك؟
سؤالان صعبان. أول ما يمكن الإجابة عنه، هو أنّ التدجين قد مرّ بخطوات مختلفة في
النوعين. في جزء، تبعاً لعدم انتظام توزعه الجغرافي، فمساحة توزع "العدس
الشرقي" كبيرة، بينما يعيش "الحمص الشبكيّ" في تركيا ومناطق قليلة
أخرى.
كما هو معتاد في هذه السلسلة، من جديد،
تقودنا آلة الزمن نحو منطقة الهلال الخصيب، هذا المكان الممتليء بالحياة منذ نهاية آخر الحقب الجليدية (منذ
11000 عام) من شرق المتوسط وصولاً إلى مصر القديمة. أرض سابحة في النيل، نهر
الاردن، دجلة والفرات، حيث عاشت نباتات سنوية وانتشرت بشكل متكرر. يُعتبر الهلال
الخصيب مهد الحضارات في العالم القديم، والمكان الذي وُلِدَتْ فيه الزراعه. ونحن،
اليوم، نتابع إسهامنا بتحقيق تلك المغامرة.
خارطة الهلال الخصيب منذ ما قبل 13.000-11.000 عام
تظهر أوائل المؤشرات على استخدام
العدس من خلال بذور متفحمة، جنبا إلى جنب مع حبيبات القمح والشعير البري، في طبقات
العصر النيوليتي قبل السيراميكي في تل المرابط وتل أبو الحريري
(السورية) وموقع نتيف هجدود (فلسطين
المحتلة) والتي تعود للفترة 9500-7200 عام قبل الآن. تمّ العثور على اكتشافات
شبيهة في كهف فرانشثي Σπήλαιον Φράγχθι (اليونان)
وفي غروتا ديل أدورا (في صقليّة) حيث ينتمي العدس
المتوفر بالتأكيد الى النوع المحليّ الوافر العدس المسود Lens nigricans.
اعتباراً من 7200 قبل الميلاد، يُصبح
مألوفاً العثور على بذور متفحمة من العدس في أماكن عديدة من الهلال الخصيب. وبناء
على صغر حجم تلك البذور (2.5-3 ميليمتر)، يستحيل تحديد فيما لو كانت بريّة
أو أنها نتاج بدء زراعتها. فقط في وقت متأخّر، وفي طبقات العصر النيوليتي ما قبل
السيراميكي في موقع يفتاح (شمال فلسطين المحتلة، يعود الى تاريخ 6800 قبل الميلاد) يبدأ العثور على بذور عدس "متلوثة" بنوع نباتيّ هو غاليوم تريكورنتوم ويصاحب
بيومنا هذا النوع المزروع من العدس، ما يعني ان تلك الشعوب قد بدأت على الأرجح بزراعة
العدس منذ أكثر من 8000 عام، إثر ذلك التاريخ وبمرور 1000 عام، تبدأ زراعة القمح
والشعير.
ربما يصحّ اعتبار بداياته
الألف السادسة قبل الميلاد، حيث يُعثَر في طبقات موقع تيبي سابز (إيران
5500-5000 قبل الميلاد) على بذور عدس بقطر قدره 4.2 مليمتر. وهو حجم يراه علماء
النبات أكبر بكثير من النسخة البريّة، ما يعني أن تلك الثمار قد جرى تحصيلها من الإنتقاء
قبل ذات التاريخ بزمن غير قليل. بذات الحقبة، نعثر على بذور في موقع شويروكويتا Hirokitya (في قبرص)، وهو حضور ناتج عن إنتشار باكر لزراعة هذا
النبات وصولا لأوروبا. بطول الألفية الثانية قبل الميلاد، امتدت زراعته إلى أفريقيا وآسيا. بمرور الزمن وتطور الحضارة، تحوّل العدس إلى غذاء أساسي للطبقات
الأكثر فقراً في اليونان القديمة (455-387 قبل الميلاد)، بينما اكتسب في روما
صفة "غذاء طقسيّ" أثناء حفلات الدفن.
الأماكن الرئيسية لانتشار زراعة العدس،
فترة ما قبل الميلاد
أما بالنسبة للحمّص، فربما يعود تاريخ
بدء زراعته إلى 10000 عام قبل الآن. تُعتبر البذور الأقدم من الحمص المؤرّخة
بالألف الثامن قبل الميلاد، وتنتمي تلك البذور إلى طبقات موقع تل أبو الحريري وتل
الكرخ (في سورية حالياً). حيث تُُظهِر تلك البذور شكلا
متوسطاً بين النموذج البري والنموذج المزروع. نقطة أخرى بصالح تطبيقات زراعية خضعت
لها تلك البذور، حيث رُصدت على بعد 260 كيلومتر عن نطاق توزعها الطبيعي.
وكدليل مضاد، يؤكد بعض الباحثين بأنه ربما تعود الجماعات الحديثة لبقايا توزّع
طبيعي وأنه أكثر انتشار في الحقب القديمة.
يُلاحظ الإنتشار الواضح للحمّص بحدود
الألف السابع – الألف السادس قبل الميلاد، حيث يظهر في طبقات العصر النيوليتي ما
قبل السيراميكي بموقعي أريحا فلسطين ورماد، وهو مكان بعيد عن
مركز أصله، حيث يُتحدَّث عن زراعته. كذلك، عثروا على بذور محمصّة من نوع C. reticulatum في طبقات موقع تركي اسمه شايونو (7500-6800
عام قبل الميلاد) وموقع تركي آخر اسمه أسيخ هويوك (6900-6500 عام قبل الميلاد).
يبدأ توفّر
هذا النبات بكثرة في طبقات الهلال الخصيب، ابتداءاً من العصر البرونزي الباكر (3300-2200 عام قبل الميلاد) في فلسطين والأردن. هذا بالنسبة لعلماء الآثار
شاهد واضح على زراعة الحمّص، حيث تختلف بذورها عن بذور النوع الوحيد من الحمّص
البري الموجود في ذات المنطقة وهو Cicer judaicum. بعد زراعته
بزمن طويل، انتشر حتى بلغ جزيرة كريت ومصر، وفي عصر الحديد (1000 قبل الميلاد)
امتدت زراعته لتصل إلى إثيوبيا وغرب آسيا.
الأماكن الرئيسية لزراعة وتوزع الحمُّص بفترة قبل الميلاد
تطور العدس والحمّص وفق
عملية التدجين
العدس من جديد
لو تصعب معرفة زمن ذروة
استخدام نبات ما، أو متى بدأت زراعته، فإنّ الأعقد هو معرفة أسباب إختيار
هذه الأنواع للزراعة. ودون الذهاب بعيداً، فكثير من البقول مثل العدس المعروف أو المطبخي لديه مساويء واضحة، منها:
أولاً: قليلة الانتاج. حَسَبَ بعض
الباحثين إنتاج النبتة، ليصل إلى 1-45 بذرة وبمتوسط قدره 10 بذور للنبتة
الواحدة. ما يعني انه لجني كيلو واحد من العدس، يجب قطاف 10000 شتلة تقريباً. وبناء
على هذا الجهد المبذول بقطافه، يجب أن يشكّل العدس جزء صغير من النظام الغذائي
لمجتمعات العصر النيوليتي ما قبل الزراعي، ولهذا السبب ربما، لم يلفت هذا النوع الإنتباه في الزراعة.
ثانياً: من الصعب تحقيق إنتاجيّة
متواصلة. حيث تعاني بذور هذا النوع من حالة "نوام"، وهي عبارة عن حقبة سُبات تمنع موت
البذرة عبر تفادي إنتاشها بفترة جفاف. يتحقق "النوام" بفضل غلاف كتيم
يحمي البذرة. فيما لو يُلغى الغلاف، كذلك، فسيُلغى "النوام". مع
هذا، رغم فعالية هذا الغلاف، نجد أن 10 إلى 15% فقط من البذور تصل لمرحلة الإنتاش
في العام التالي. ويشكّل هذا دمار من وجهة نظر زراعيّة، حيث يتحول كل الإنتاج إلى
موسم الزراعة في العام التالي .. حيث سنحقق ذات الإنتاج.
حقل مزروع بالعدس. فاليوم لا تُواجهنا مشاكل كثيرة. منطقة بريدا، سورية، الفترة 1998/1999
بفضل أعمال الدكتور لادزينسكي، نعرف اليوم بالحاجة إلى جين واحد فقط لتحديد "النوام"، بالتالي، تحقيق طفرات حادثية بهذا
الجين، ستتمكن من إلغائه. يتفق بعض الباحثين بكفاية حدوث هذا تحت ظروف مائية (من 4 الى 7 أعوام ماطرة دون جفاف)، كي تسود النبتات "الغير نائمة"
في الجماعة بفضل نموها السريع وايقاع تضاعفها العالي. سيطرة، ستستمر حتى حقبة
الجفاف التالية.
يعتبر عالم النبات دانييل زوهاري بأنه بمجرد تحقيق تلك الظاهرة، بدأت زراعة العدس وبسرعة، حيث سادت
"الغير نائمة" في عمليات الزراعة. من جانبه، يُبرهن لادزينسكي بأنّ هذا
لا يحلّ مشكلة انتقاء ذلك النوع والحفاظ اللاحق على زراعته بسبب مردوده القليل.
لهذا، يؤكد بأنّ إلغاء "النوام" قد حدث قبل تدجين العدس، بحسب زراعتها،
بحقبة تمتد من 4 الى 6 أعوام دون جفاف، ستكفي لتبلغ نسبة العدس "الغير
نائمة" أكثر من 50% من العدس الكليّ. ليس هذا فقط، بل بأخذ القدرة الضئيلة على نشر البذور بعين الإعتبار، لن تكتسب نبتاته الكثيفة سهولة في الجني فقط، بل ستشكل
حافز في الاهتمام المستقبلي بزراعته.
تغيّر جوهري آخر في الحبوب
والقطّانيات المزروعه، هو تثبيت البذور الناضجة على النبات البالغ. فلقد رأينا ان
هذا قد تحقّق في الحبوب من خلال السنابل غير الهشّة، والتي تحفظ البذور حتى وقت
قطافها بدل أن تنتثر بواسطة الرياح أو الحيوانات. حصل شيء مشابه في
القطّانيات. حيث تنفتح السنفات الناضجة ذاتيا محررة محتواها، هي منفتحة. بينما ينعكس الأمر في حبوبنا المزروعه، فالبذرة محتجزة في سنفة لا تنفتح عند نضجها، هي
غير منفتحة. في العدس، هي منفتحة كميزة مسيطرة
امام الميزة غير المنفتحة، ورغم ذلك، فإنّ
الميزة الأخيرة، تلك، هي سائدة في عدسنا المزروع. ويمكن تفسير هذا بوصفه نتيجة انتقاء
مفروض عبر التدجين. وفّرت أبحاث لادزينسكي العام 1979 الجدول
التالي، حيث نجد بعض الميزات المختلفة الأكثر إثارة بين النوعين البري والمزروع،
على الصعيد الجيني الوراثي.
جدول يوضح توريث الميزات التشكلية في
نوع العدس المطبخي على شكل بقع في غلاف البذرة، Ghنمط النموّ، Gs لون الشتلة ، Pi سنفة منفتحه
بحسب لادزينسكي العام 1979
مع هذا، تبين دراسات حديثة بأنّ نتائج
الجدول السابق تُعاني من نقص. تمّ التحقّق من الفروقات (بين العدس المزروع والعدس
"الشرقي") في 9 ميزات (ارتفاع العقدة الاولى، عدد التفرعات
حتى العقدة الأولى، العدد الإجمالي للتفرعات، ارتفاع النبات، زمن الإزهرار، منفتحة،
عدد البذور، وزن البذور وقطر البذرة) بسبب تبدُّل موقع 23 مقطع كروموزومي نوعي أو المُعامل QTL. ما يعني، أنهم قد اكتشفوا بأنّه على الاقلّ 23 مقطع من الحمض النووي DNA مرتبطة
بتحضير تلك الميزات التسع، وقد خضعت للتعديل خلال آلاف الأعوام الأخيرة من التدجين.
نجد، بالتالي، أنه لكل فارق بين العدس "الشرقي" و العدس "المزروع"،
يوجد (بالتأكيد) أكثر من جين واحد متعدّل. كمثال، رأينا في الجدول السابق بأنّه أعطي تفريق ميزة الإنفتاح بنسبة .1:3 مع ذلك، بحسب تلك الدراسة، فالنسب ليست بكل هذه الدقة،
بل تتغير بصيغة تبرز حضور تبدّل بمواقع ثلاثة مقاطع كروموزومية (مثل الصويا
نوع Glycine max) متدخلة حول الميزة، والتي يُفسر علماء الوراثة تأثيرها عبر جين
رئيسي وجينين آخرين ذوي فعل ثانوي.
بعض أنواع العدس
سؤال هام آخر يحضر هنا.. لماذا هناك
بذور ذات لون اصفر .. ضارب الى الرمادي؟
من حيث المبدأ، هذه ميزة غير هامة كثيراً،
في الواقع، للبرهان على هذه النقطة، سنفترض بان تلك الميزة غير هامة زراعيا
ولا غذائياً. في حال كان الامر هكذا، لماذا يتم انتقاء تلك الميزة؟ لماذا تبرزها
النباتات المدجنة؟
يرتبط هذا بـ "جينات لا
تشكّل ذاتيات حرّة". فالجينات هي تعاقبات من الحمض النووي DNA مندمجة في
الكروموزومات (الصبغيات). عند العثور على جينين بذات الكروموزوم، يمكن أن يتواجدا الواحد بجانب الآخر. لهذا، تسمى جينات مرتبطة، وحيث أنهما سوياً، يورثان
سوياً. لكن في جينوماتنا لا نمتلك زوج من الجينات فقط، بل أكثر بكثير منهما. عند
وجود جينين في كرومزومين مختلفين، فاننا نتحدث عن جينومين غير مرتبطين بل
منفصلين، يورثان بشكل منفصل. فالميزات الشهيرة التي درسها ماندل في البازلاء،
تتقاسم الخيار الاخير ذاك.
يفسّر هذا سبب انتقاء ميزات محددة ليس لها أهمية زراعية، مثل حضور أو غياب الشعرانيّة في السنفات (السنفة هي الغلاف
المحيط بحبوب البقليات، كقرن الفول والبازلاء والحمص والعدس .. الخ)، لون الأوراق
او عدد الوريقات بكل ورقة. فهي ميزات غير هامة، لكنها
مترابطة ببعضها، وترتبط بشيء هام كالتنظيم الجيني لحجم النبات. بذات الصيغة، يرتبط لون سطح البذرة والوريقات
بالاوراق بالجينات التي تحدد الإزهرار المبكر.
فرق بين الجينات المستقلة غير
المرتبطة والجينات المرتبطة، التي تورث سويا
الحمُّص من جديد
لدينا أشياء يجب قولها بخصوص الحمّص
نوع الحمُّص الشائع Cicer arietinum. مرّت كل النباتات، خلال عملية
تدجينها، بظاهرة تسمى "عنق الزجاجة"، حيث تحصل خسارة كبيرة في التنوع
الجيني بسبب إعطاء الأصل لأوائل النباتات المدجنة من خلال أفراد قلائل بأماكن
محددة حصرياً. يعني حضور أفراد قلائل إمتلاك تمثيل صغير جداً للتنوع الجيني الاجمالي
للنوع الحيّ. هذا النقص بالتنوع الجيني (وبجينات مفيدة بشكل فعّال) يمكن تخفيفه،
بجانب، مع هجائن بين أنواع مزروعة ذات اصل مختلف و/ أو مع هجائن مع أنواع بريّة.
"عنق الزجاجة" أوضح في الحمّص. ففي المقام الاول، لأن
الجماعات الأصلية للسلف البري Cicer reticulatum قد كانت ضحايا
لظاهرة "عنق الزجاجة". في
المقام الثاني، بينما قد تنعّم العدس وبقوليات أخرى (كالبازلاء) بمواطن تدجين
عديدة، فإنّ الحمّص قد دُجِّنَ بأماكن قليلة في تركيا. في الواقع، لدى الحمّص
المزروع تنوع جيني أقلّ من نظيره البري.
توزع جغرافي لأنواع أسلاف لأنواعنا
المزروعه. إلى اليسار: الحمّص. في الوسط: الشعير. النجيلات البرية، القمح القاسي. إلى اليمين: العدس والبازلاء
لماذا توجّب اختيار نوع الحمّص؟
لدى نوع الحمُّص الشائع فائدة لا تحضر لدى البقوليات الأخرى، التي عاشت في الهلال الخصيب، فإضافة لحجمه الاكبر، فهو ذو سنفات منغلقة تحفظ البذور حتى بعد بلوغها بزمن طويل. بحسب لادزينسكي، يحوله هذا إلى
مصدر حيوي للغذاء، وبناءاً عليه، تصبح جاذبية زراعته أكبر.
نقطة اخرى يقدمها فريق بحثي بقيادة شاحال عبو من معهد علوم
النبات والوراثة الزراعية بالجامعه العبرية في القدس المحتلة، حيث أولى اهتماماً خاصاً بتاريخ الحمّص، وبحسب هذا الفريق، توجّب اختيار الحمّص بسبب قيمته الغذائية
العالية. فالحمّص مصدر لحمضين أمينيين أساسيين (تريبتوفان وفينيل ألانين) يساهمان برفع مستوى الرضى والشبع، هي هدية بيولوجية تتمثل بنوال
غذاء أساسي لعمل جيد للدماغ. في الواقع، حمصنا المزروع غني بشكل مضاعف
بالحمض الأميني تريبتوفان قياسا بالنوع البري.
أليس هذا دليل إضافي على أهمية الفعل
الإنتقائي والغير واعي للقيم العليا للحموض الأمينية الاساسية؟
بالتأكيد. نعم.
جدول يبين القيمة الغذائية اليومية من
الحمص بالغرام للحصول على اللازم يوميا من الحمض الأميني التريبتوفان، وفق منظمة الفاو
يبرز "عنق الزجاجة"
التالي، الذي تعرّض له الحمّص، من خلال رهان خطر قد غيّر دورة حياته. تمتلك كثير من
نباتات المتوسط، وعلى وجه الخصوص نباتات الهلال الخصيب، دورة حياة يحصل إنتاشها بفصل الخريف وتنمو حتى نهايات الشتاء (حيث تستقبل 80% من الهطولات
المطرية السنوية)، ويحصل الإزهرار بأوائل فصل الربيع وتصل إلى البلوغ قبل وصول
الصيف. الحمّص المزروع هو استثناء بهذه القاعده، فهو يُزرع بنهاية الحقبة
الماطرة وينمو خلال قيظ الصيف الشديد.
هذا ليس مجانيّ. ففي بعض مناطق
فلسطين المحتلة، للآن، يُزرع الحمص في فصل الخريف، حيث يبلغ الإنتاج 3 طن للهكتار،
وهذا أكثر بكثير من 700 كغ للهكتار للنوع المزروع في الربيع.
حسناً، لماذا كل تلك
التضحية بهذه الكمية الزائدة من الإنتاج إذاً؟
لماذا تُتَبَع هذه الإستراتيجية
التنافسية؟
السبب جوهري، فهناك نوع من الآفات الشديدة الخطر، نوع من الفطور
المسماة Didymella rabiei. حيث تهاجم القسم الهوائي من
النبات (بذور، سنفات، ازهار، اوراق وساق) مسببة مرض يسمى "داء كلب الحمّص"، حيث تتضمن عوارضه ظهور بُقع ومساحات منخورة. تأثيره فظيع إلى درجة
تخريب كامل المزروعات منه. ولحسن الحظ، أن هذه الآفات ضعيفة ولديها معيقات
للتأثير في فصل الربيع، وهذا بفضل الرطوبة البيئية المسيطرة.
تاثيرات الفطر Didymella rabiei على
الحمّص
بعض أنواع الحمُّص
حقل حمُّص في أوستراليا
آثار الطفرات والتطوُّر. في الأعلى وإلى اليسار زهرة بيضاء متطفِّرة وإلى
اليمين زهرة بريّة. في الأسفل وإلى اليسار
بذور بريّة، في الوسط بذور متطفِّرة وإلى اليمين بذور مزروعة
المصدر الاسباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق