القسم الرابع: ماضٍ
بعيد - فترة شباب فوضوية
يمكننا البدء بتقصي مسألة تدجين هذه
الثمرة، هذا التطور، الذي يحققه البشر فيها، فلقد تغيرت الثمرة جذرياً من فاكهة
شيطانيّة إلى فاكهة مُباركة. لكن، الموضوع أعقد من هذا وأبعد من عملية التدجين
ذاتها. بحيث تُعنى هذه السلسلة "البستان التطوريّ" بتقديم ما يكشفه علم الوراثة لماضي النبات
المدروس الهام.
نحن نعيش في عصر الجينوم، وخلال السنوات
الأخيرة، كرّست مجموعات بحث وقتها لفك شيفرة جينوم كثير من الانواع الحيّة، وجرى
التركيز على تلك الأنواع ذات الأهميّة الحيوية الطبيّة والاقتصاديّة أو التطوريّة.
وفي الموز بعض من تلك القضايا، وفعلاً، درسه أخصائيُّو علم الوراثة ونشروا، بشهر
أغسطس / آب 2012 بمجلة الطبيعة، بحثاً شارك به
19 مركز بحث من أوستراليا، البرازيل، الولايات المتحدة، فرنسا، هولندا،
تشيكوسلوفاكيا وسويسره وحمل البحث إسم:
D’Hont, A. et al. 2012. The banana (Musa acuminata) genome and the evolution of
monocotyledonous plants . Nature 488: 213-217. Artículo de
acceso libre.
يبيّن البحث أوّل مسودة لكامل جينوم
الموز، الموز البري النُويع الموز الماليزي البرّي كأحد أسلاف النوع التجاري الشهير الكافنديش. يتكون
جينومها، بحسب هذا البحث، من 11 زوج من الكروموزومات أو الصبغيات (لدى أنواع موز أخرى 10 أزواج كروموزومات) و523 مليون زوج قواعد، وتشمل كامل المادة الجينية على
حوالي 30000 و40000 منطقة محددة كجينات (نحن البشر لدينا ما بين 20000 و21000 جين) ويحتوي نصف الجينوم، على الأقلّ، على جينات قافزة "الينقولات" وهي مواد وراثيّة مصنوعة من الحمض النووي الريبي منقوص
الاوكسجين DNA، لكنها أحياناً، تغيِّر أماكنها ضمن الجينوم وتتضاعف
دون أخذ إذن مُسبق، وهي للآن، كيانات خاضعة للدراسة والتمحيص.
لكن، المعلومة الأفضل، قد أتت من تحليل
تفصيلي للجينوم. وبدراسة استفادت من كل الدراسات السابقة، بما نشرته مجلة الطبيعة،
حيث نرى التركيز على التضاعفات الكاملة للجينوم وآثارها على التطوّر عند سلالات
عديدة للموز.
تضاعف الجينوم الكامل، هي ظاهرة تسببها طفرة وتؤدي لظهور كائنات
جديدة بكامل جينومها المتضاعف نسبة لأبويها. هذا ليس بظاهرة غريبة ويحدث بصورة
مستمرة حتى يومنا هذا، وهو مصدر لخلق أنواع جديدة؛ وهو ما رأيناه سابقاً في
موضوعي تطور العنب والبطيخ.
يرى العلماء،
بهذه الحالة، بأنّه منذ حوالي 65 مليون عام، قد حصل حادثي تضاعف جيني بما سيشكل سلف
الفصيلة الموزية.
يعني هذا أن
التضاعف الجيني المزدوج قد ولّد نوع جديد من النبات، وهو سيشكّل، بدوره، إثر
مرور ملايين الأعوام، سلف الموز الراهن بين أنواع أخرى، وتسمى عملية التضاعف
الجيني المزدوج تلك α/β. لكن، لا تنتهي
القصة هنا، فيبدو أنّ سلف الفصيلة الموزية، بدوره، قد ورث تضاعف جيني آخر.
بحسب المُشاركين بذاك البحث، فقد حصل
التضاعف الجيني الآخر بحدود ما قبل 100 مليون عام وقد تمت تسميته التضاعف γ. ولّد هذا
التضاعف سلف رتبة الزنجبيليات الراهنة، وهي
مجموعة نباتية مُكوّنة من فصيلتين شقيقتين هما الموزيات و الزنجبيليات، وهذه الأخيرة، هي فصيلة نباتية ينتمي لها أنواع مثل الزنجبيل.
كذلك عثروا على حوادث تضاعف جيني في الفصيلة النجيلية (التي ينتمي لها
الأرُّز والقمح)، لكن، يبدو بأنّ تلك التضاعفات قد حصلت بمعزل عمّا حصل بالزنجبيليات.
إلى اليسار، تضاعفات جينومية كاملة حاصلة عند سلف الزنجبيليات (تضاعف γ) وعند سلف الموزيات (تضاعف α/β). إلى اليمين،
تطور أحاديات الفلقة وثنائيات الفلقة، تمثل اللوحتان حوادث تضاعف جينومي كامل
القسم الخامس: "انظري أماه، فلقد ابتكرتُ الزراعة!"
لكي نعرف العلم جيداً، من المفيد
معرفة أدواته. ونجد بعلم الآثار النباتيّ واحدة من أهم الأدوات وهي البلورات
الحجرية أو صخر النبات، وهي بنى مجهرية تتركّب من ثنائي أوكسيد السيليكون أو السيليكا، وتُصنَع
داخل الخلايا النباتيّة. ويشكّل هذا المركّب "مادة زجاجية بالغة القسوة" ويُحفَظُ خلال حقب زمنية طويلة. وعلى اعتبار
أنّ كل نوع أو جنس نباتيّ له بلوراته الحجرية الخاصة به، فبالامكان
التحديد بدقّة لزمن تواجد تلك البلورات في الموقع المدروس. بلورات الموز
الحجرية بالغة التميُّز، لكنها لا تسمح بالتفريق بين الأنواع البرية والمزروعة،
ولهذا، وعلى الرغم من اثباتها حضور نباتات الموز بمكان ما وبزمن ما، فسيتوجب إثبات
حدوث التدجين من خلال معطيات أخرى.
ربما، يعود التاريخ المشترك للموز
والبشر لزمن قديم، يتوافق مع استيطان جزيرة غينيا الجديدة (منذ حوالي 40000 عام).
يوجد في غينيا الجديدة الموقع الأثري كوك سوامب على ارتفاع
1560 متر عن سطح البحر، ويقع ضمن الحرش المداري بجبال منخفضة وبدرجة حرارة متوسطة
هي 19 مئوية ومعدل سقوط مطر هو 27000 ميليمتر سنوياً، نعم، هو مكان رطب بالعموم.
يكتسب موقع كوك سوامب أهميته، مما
عُثِرَ عليه فيه من لقى تعود لما قبل 10220 – 9910 عام، من قبيل:
1- يبيّن سجّل غبار الطلع والبلورات
الحجرية لتلك الحقبة حلول أماكن فارغة بموضع الحرش.
2- تظهر ثقوب
مكافئة لما يُصنع منها لحمل بعض المزروعات وتدعيم بعضها الآخر.
3- توجد
بقايا سدّ قديم لتجميع المياه ودعم قناة ريّ وعدم استنزاف الأرض لها.
4- وفي حال
عدم كفاية كل ذلك، فتوجد أدوات حجرية وبقايا نبتة معروفة باسم قلقاس مأكول أو آذان الفيل أو قلقاس زراعي وهي تشبه نبتة الموز (دون أن تنتمي إلى نبتة موز) وتستعمل كغذاء.
يُشير كل هذا لأخصائيي علم الآثار لبدايات باكرة بأنشطة زراعية بمناطق المستنقعات.
إلى اليسار، بلورات حجرية للنوع الموزيات عرضة لمسح مجهر
الكتروني (ما خلا الصورة اليمنى العليا)، إلى اليمين، صورة نبات القلقاس سالف الذكر وساقه تحت أرضي متضخم وقابل للأكل
ستتابع تلك التقنية تطورها في موقع كوك سوامب. ففي حقبة
زمنية تمتد ما بين 6950 – 5990 عام تظهر الثقوب، بقايا الكاربون إضافة إلى تقنية
زراعية جديدة مثالية لمناطق رطبة:
تلال مرتفعة تسمح بتصريف أسهل للمياه.
ربما، الأكثر أهميّة، هو توفُّر كميات ضخمة من البلورات الحجرية للموز، والذي يمكن
تفسيره بكثافة زراعة الموز، لدرجة لا
يضاهيه أيّ نبات يمكن العثور عليه بصورة طبيعية فيها.
لهذا، يقدِّر علماء الآثار حصول زراعة
الموز بفترة ما قبل 6 إلى 7 آلاف عام. كذلك تُشبِهُ هذه البلورات الحجرية كثيراً بلورات الموز البرّي النوع الفرعيّ موز بانكسي وهو النوع الفرعي الوحيد للموز، الذي ينمو بصورة طبيعية بتلك
الجزيرة. ولهذا مدلول كبير، يتوجب حضور زراعة نوع ما، بدقّة، في المكان
الذي يعيش فيه، بالتالي، لا يمكن تدجين نبات من الصفر أي من نوع غير موجود!
ولا يقتصر هذا على الموز فحسب، ففي
الواقع، نشأت نباتات كثيرة في غينيا الجديدة، وانتقلت منها لاحقاً، مثل النوع
المشار له سابقاً أي القلقاس، النوع ديسقوريا جناحية أو اليام الأرجواني، قصب السكّر المخزني والموز النوع
الفرعي موز بانكسي بين غيرها من
النباتات. وتقنياتها الزراعية متخصصة بمناطق مستنقعات، ووجب انحصار هذا
الإبتكار فيها، وهو ما يكافيء الابتكار المستقلّ الذي حصل في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط أو بمناطق عديدة بأميركا الجنوبية وآسيا قديماً. كما فعل سكّان تلك المناطق
بتركيزهم على نباتات محلية غنيّة بالسكريات و / أو البروتينات.
أزهار وثمار الموز البري النوع الفرعيّ بانكسي بغينيا
الجديدة:
A أزهار ذكرية. B ثمرة. C ثمرة مفتوحة لتبدو البذور
لكن، رأينا أن ثمرة الموز لا تُهضَمْ
بسهولة، فلماذا ركّزوا عليها. لماذا تُزرع؟ ربما قد حقّق سكّان ذاك الزمن عمليات
تسبق الإستهلاك كالسلق، الشوي، الطبخ والسحق إضافة لخلطه مع مكونات أخرى. ربما
توصّل سكّان موقع كوك سوامب لتحسين القيمة
الغذائية لتلك الثمار الأصلية.
لكن، حتى لو اعتبرنا ثمرة الموز غير
مفيدة كلياً، فيوجد أسباب أخرى تجعل من المفيد زراعة الموز، فالبقاء على قيد
الحياة، يعني الإستفادة من كل الموارد المتاحة بأقصى شكل ممكن. وبناء عليه، فسكّان
جنوب شرق آسيا والمنطقة الهندية – المالاوية قد استفادوا من نبات الموز بطرق
كثيرة:
1- يمكن تناول الأزهار، الأوراق
النضرة والأغصان بصورة نيئة أو مطبوخة بصور عديدة.
2- تنفع الأوراق بتحضير أغلفة للمواد
الغذائية.
3- يمكن استخراج مواد تساعد بالتنظيف
وتحضير الورق.
4- يمكن لبعض أجزاء الأوراق الإسهام
بتحضير لفافات تبغ وعناصر أخرى.
5- تمكّن مواطني تلك المناطق من
استخدامها بأمور طبية علاجية ودينية طقوسيّة.
6- يُفيد كعلف للخنازير
وفي إستخدامات منزلية أخرى.
يخلق كل هذا أهميّة خاصة لنباتات
الموز في الإقتصادات المحلية المتواضعة. حتى لو أضحت ثمار الموز ثمار عابرة للحدود
عالمياً، فأنا أقصد الألياف المُستخرجة من أوراق الموز، والتي ساهمت بخلق صناعة
نسيجية واعدة، ثياب ذات جودة عالية، حبال، سجّاد، ستائر وأدوات زينة قيِّمة.
في الواقع يقترب نوع الموز الموز النسيجي من نوع مزروع أكثر منه برّي، فهو يشكّل قاعدة "القنِّب" في الفيلبين، وهو عبارة عن نسيج نشره الإسبان منذ أواسط القرن الثامن عشر،
وشكّل صناعة قويّة جرى تصدير بضاعتها إلى أميركا واليابان، لكن، إنتاجها قد تدهور
بصورة ملحوظة، إثر ابتكار الألياف الصناعيّة (رغم دوام إستخدامها حتى يومنا
هذا). بدوره، ازدهر نوع نسيج آخر مصنوع من ألياف نوع موز برّي آخر هو موز بالبيسي وسوقه في تصاعد بيومنا هذا، وتبلغ الأجور المدفوعة 200000 دولار
لتحضير النسيج الذي يُصنع منه اللباس التقليدي الياباني الكيمونو.
استخدام نباتات الموز بتصنيع أنواع من
النسيج
La fuente المصدر الاسباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق