الجعة أو البيرة. ذهبيّة وساحرة.
سوداء وذات رغوة. في عبوات متنوعة وكؤوس مختلفة.
هل يتخيل أحدكم عالماً دون جعة؟
بماذا نسترطب في الصيف؟ بأيّ شيء نصحب بعض المازوات وبعض الموالح؟ كيف يعيش
الأجانب الذين يقصدون سواحلنا للسياحة؟ مَنْ يحفظ سهراتنا؟ ماذا سيحلّ بإيرلندا؟
الشعير العفوي البري كما الشعير المزروع الراهن، هي نباتات نعتبرها، اليوم، كأنواع فرعيّة، ما يعني، توجد في طريق
انفصال لأنواع مختلفة.
المادة الأساسية بالجعة هي حبيبات
الشعير؛ التي تفيد بتحضير أنواع خبز ومعجنات وحلويات مختلفة ومنتجات اخرى. كما أن الشعير
يدخل بتحضير أعلاف للخنازير والأبقار وغيرها من الحيوانات الداجنة. بالتالي، يمكننا
القول بأن الجعة والشعير: هما معنا منذ الأزل. أو ربما لا؟
الشعير نبات هائل الإنتشار. في
وقتنا الراهن، يأتي خلف الذرة، القمح والأرز، بوصفه رابع نبات حبوبيّ والأكثر أهمية
على الصعيد العالمي. إسمه العلمي، هو:
Hordeum vulgare ssp. vulgare L
يوجد جنبا إلى جنب مع القمح، الذرة، الأرز،
الذرة البيضاء، قصب السكر أو البشتة (نبات سنوي من النجيليات، يُزرع للاستفاده من
عشبه .. قاموس المورد اسباني عربي). الشعير نبات سنوي، طبيعة جينومه
ثنائيّة المجموعة الصبغية (كجينومنا االبشري)، يحتوي على 7 أزواج من الكروموزومات فقط.
وبعكس نباتات أخرى، يمتلك مستوى مرتفع من التلقيح الذاتيّ، ما يعني نُدرة التلقيح التهجيني، بالتالي، أزهاره ذاتها التي تتكاثر مولدة ذاتها.
سنبلة ناضجة من الشعير
الشعير، بوقتنا الراهن، هو نبات سهل
الزراعة والحصاد، متكيف مع كل أنواع البيئات والمناخات، حيث يتوزع بكل أنحاء
العالم. مع هذا، في زمن آخر، في مكان مفقود، اختلف الوضع بشكل ملموس.
إنتاج العالم من الشعير لكل هكتار خلال الفترة 2000 – 2002
بدايات قديمة، إرتباطات
شديدة
منذ 23000 عام، بلغت الحقبة الجليدية
أوجها. بينما تراجعت في نصف الكرة الشمالي، في الهلال الخصيب حيث تراوحت درجات
الحرارة بين 12 و16 درجة مئوية كمتوسط سنوي، وهو متوسط أقل بست درجات من متوسط درجت حرارة العصر
الحديث. كما حضرت هطولات مطرية أقلّ، حوالي 300 الى 450 ميليمتر سنوياً، مقابل
500 ميليمتر يمكن للشعير " التمتع بها " حالياً.
تحت وقع هذا المناخ الرطب والصحراوي،
نجد ملاجيء غنيّة بالحياة النباتية قادرة على دعم العُطم (جماعة الحيوانات
والكائنات الحية في منطقة او حقبة جيولوجية .. قاموس المورد اسباني عربي)
المتكونة من الغزلان، القوارض والطيور، بينما تسبح أسماك ورخويات في بحيرات قريبة.
وفي قمة الهرم الغذائيّ، لدينا، الجماعات البشرية المكونة من مُلتقطي الثمار
والصيادين.
ماكيت لمكان
اثري أسموه أوهالو 2 في حيفا - فلسطين والذي يعود الى قبل 23.000 عام
يوفر هذا لنا أحد أفضل الطبقات الأثرية
في العالم، موقع أوهالو 2 الواقع في
فلسطين الحالية على ضفاف بحيرة طبرية أو بحيرة الجليل، عبارة عن بلدة قديمة محفوظة
بشكل جيد والتي تعود لما قبل 23000 عام، عندما بلغت الحقبة الجليدية
الأخيرة خواتيمها.
قاد عمليات التنقيب داني نادل من جامعة حيفا، بين العامين 1989 و1991 وبين العامين 1998 و2001،
عندما انخفض مستوى بحيرة طبريا بشكل كافٍ، الأمر الذي سمح بالحفر بتلك المنطقة.
تمثيل لموقع أوهالو 2 في معرض بمتحف هتشت، جامعة حيفا .. فلسطين
تبدو البلدة كمخيّم. صًنِعَت الخيم الستة من الأغصان والأوراق، واحتفظ القبر المجاور ببقايا جسد. لكن أكثر ما لفت الانتباه
هو الأدوات الحاضرة في الموقع. تُعتبر معالجة المادة النباتية للتغذية عادة
قديمة جداً، فلقد احتوت الأدوات على طواحين حجرية (مفترض أنها مستعملة لطحن
الحبوب) خلال العصر الحجري الاقدم (بين 45000 و18000 عام). مع ذلك، عثروا في
الموقع على أدلة مباشرة لشيء أعقد، مثل تحميص الحبوب والفواكه قبل معالجتها. عثروا
على أحجار كربونية مُحضّرة بشكل معقول. وفي المحيط، هناك حبيبات متعرّضة للحرارة.
يصعب تخيُّل أنّها شيء آخر مختلف عن مواقد بدائيّة، وهي الدليل الأول على
تحميص الفواكه والحبوب للتغذية. وهذا ليس هزلياً. فربما بالنسبة لتلك
الناس، قد سهّلت المحمصات الإجراءات وزادت الإستساغة، مع هذا، بصورة غير واعية، بفضل
المحمصات ايضاً، ازدادت القيمة الغذائية والقدرة الهضمية.
حُفِظَت الطبقة جيداً، وتمكنوا من دراسة النظام الغذائي لألئك الأسلاف. وبالتأكيد، حضر نظام متنوع فيه
فواكه وبذور لكثير من الأنواع المتواجدة في المحيط، مثل سنديان طابوري نويع كبير الحراشف، اللوز، التين
البري، الفستق الحلبي، الزيتون البري، السدر، العليق، العنب
البري....الخ.
مع ذلك، فالمورد النباتي الأهم هو النجيليات. هي أزمنة صعبة والموارد محدودة. ليس غريباً أن كثير من
الأعشاب التي تُعتبر، بيومنا هذا، "أعشاباً ضارةً"، اعتُبِرَت هامة في تلك الحقبة. ففي الموقع المذكور أوهالو 2، هناك أنواع
"ذات حبيبات صغيرة" مثّلت ما نسبته 34.6% من الحجم الكامل للنجيليات
الراهنة المستعملة في التغذية.
انتمى القسم الباقي الذي نسبته 65.4%
الى الحبوبيات، بالتأكيد إلى:
وإلى:
وهي أسلاف الشعير والقمح
الحديثين. لكن، لم تحضر أجزاء متماثلة لديها. كلا، فلقد تجاوز الشعير العفوي
بنسبة 25:1 القمح ثنائي الحبة.
جدول يبيّن أنواع عديدة من النجيليات،
استخدمها سكان موقع أوهالو 2 بالتغذية ، تمثل الارقام
كميات البذور لا أحجامها. ترمز SGG كمختصر لكلمات إنكليزية، هي:
Small-Grained Grasses ، أي أعشاب ذات حبيبات صغيرة
ولادة عصر جديد
بمضي الزمن، ازدادت أهمية الحبوب دون
توقف، على حساب تلك "الأعشاب ذات الحبيبات الصغيرة" التي فقدت أهميتها تدريجياً لتصل لمرحلة الإختفاء.
جدول يوضح تطور أهمية الحبوب في
التغذية
"فالشعير البري"
عبارة عن عشبة سنوية متكيّفة، نعثر عليها في مناطق ذات مناخ متوسطي (شتاء ماطر
وصيف جاف) وفي الصحاري حيث يندر المطر، نجدها على مستوى سطح البحر وفي ارتفاعات
تصل إلى 1500 متر عن سطح البحر، تغزو قطاع بطول أكثر من 3500 كيلومتر من شواطي
الشرق الأوسط المتوسطية الى جنوب شرق آسيا، بما فيها سلسلة جبال الهيمالايا
والتيبيت.
نماذج من الشعير العفوي البري
منذ 15000 عام، وصلت جماعة بشرية أخرى
إلى الهلال الخصيب، عُرفت باسم الجماعة النطوفية، وظهر أفرادها
لأول مرة كجماعة صيد – التقاط ثمار، مع هذا، خلال فترة قصيرة استقروا على شكل
بلدات نصف – مستقرة على أراض خصيبة في شرق المتوسط، حيث يتوفر الغذاء بصيغة أغذية
نباتية متوفرة بكثرة، وهو أفضل من الترحال، الذي تبيَّنَ عدم جدواه
بعد الاستقرار.
توجّب عليهم معرفة التعامل والتحكّم
بهذا الغنى الطبيعي الوافر. أتقنوا صنع طواحين الحجر المفيدة بتسهيل طحن الحبوب واستخراج الأصباغ، بدؤوا بصنع المناجل الحجرية لتقطيع العشب، هكذا، كما
المواقد لتحميص الحبوب. كذلك، طوّروا تقنية التخزين، والتي تركزت وقتها
في آبار متواضعه محفورة بالأرض، حيث أمكنهم مراكمة الغذاء في موسم فيه فائض إنتاج.
أطلق بعض
الباحثين على هذا "ما قبل التكيُّف". قياساً بتطورات، ستحصل في مستقبل
بعيد، يتميز "ما قبل التكيُّف" بتطوير أدوات تسبق تطبيقات لا يمكن الإستغناء
عنها فيها، هنا نتحدث عن التقنيات الضرورية بإدارة الموارد النباتية قبل ظهور
الزراعة بكثير.
رسم تمثيلي لجماعة نطوفية، بفترة ما قبل11.000-15.000 عام
بحصول تغيُّر
مُناخي قبل 12800 عام، حدثت حقبة جفاف لعدّة عقود معروفة تحت إسم حقبة ظهور درياس ثماني البتلات، حيث ارتفعت درجة الحرارة من 5 الى 10 درجات مئوية وهو ما ساهم بإنطلاق
الزراعة.
يسعى بعض الباحثين للربط بين كلا
الحدثين للبرهنة على أنّ جماعات نطوفية محددة، قد راكمت خبرة على
مدار آلاف الأعوام في معالجة وتخزين أنواع نباتيّة، و كردّ من تلك الجماعات على
نقص الإنتاج الطبيعي، الناتج عن التغيُّر المُناخي المُشار له سالفاً، زرعوا هم
ذاتهم الأرض.
بكل الأحوال، عندما بدأت الزراعة، اعتُبِرَ
الشعير من النباتات الرائدة. تعود أوائل مؤشرات تدجينه، الغير قابلة للنقاش، للفترة
الممتدة بين ما قبل 10.500 الى 10.000 عام في منطقة الهلال الخصيب. وهي منطقة واقعة في الشرق القريب جنوب هضبة الأناضول بين نهري
دجلة والفرات. إثر 2000 عام من الزراعة، اي منذ 8000 عام، بدأت زراعة الشعير بالإنتشار
نحو شمال أفريقيا وأوروبا.
التوزُّع الجغرافي لاهم الانواع
البريّة من الشعير
لكن، توجد مناطق تدجين أخرى، حيث انتشر
"الشعير البري" من شواطيء البحر المتوسط إلى مركز قارة آسيا. وباستكمال الدراسات الوراثية، تُعتبر الحقبة الواقعة بين 10000 الى 8000 عام قبل الآن، هي التي حصل فيها ابتكار
الزراعة المستقلة للشعير في جنوب غرب آسيا، كما تُشير طبقات وادي إندو وفي ميغراه (قبل 8000 عام)، أو في جيتون (قبل 7000 عام) في المنطقة الشمالية الغربية من الهضبة
الإيرانية وجنوب تركمانستان.
تدجين الهلال الخصيب، كما تدجين مركز
آسيا، طوَّرا الشعير بصورة متشابهة. تكيّفت السلالتان بشكل متوازي
ومتطابق الميزات تقريباً. ظهرت حتمية بالتغيُّر في الشعير. بالنسبة للنبات، التدجين صيغة مثالية لمضاعفة نجاحه التكاثريّ وحجم رقعة إنتشاره. لكن، هذا ليس
دون ثمن أو مجّاني، فمن بين أكثر الضرائب التي عليه دفعها هي حريته في الإنتشار.
سنبلة مزهرة للشعير البري العفوي
ضريبة التبعيّة
تشكّل السنيبلة نظام الإزهرار الأساسيّ
في النجيليات. تتكوّن من زهرة أو أكثر، حيث تستند كل زهرة على وريقتين او ثلاث
وريقات صغيرة الحجم. بدورها، تتغطى كل
زهرة بمصراعين.
تتحد تلك الأخيرة بالنهاية لتشكل ساق ينقسم الى شقين متعارضين، كل هذه البنية، للآن، هي السنيبلة.
وفي حال كون السنيبلة هكذا،
فما هي السنبلة إذاً؟
السنبلة، ببساطة، عبارة عن تجمُّع من السنيبلات لا أكثر
ولا أقلّ.
إلى اليسار، تمثيل تشريحي لسنبلة نوع شوفان عقيم. إلى اليمين، سنيبلة لجنس الشوفان
ملاحظة: تشكل الوريقات الصغيرة أعضاء
نباتية تذكرنا بالأوراق، فهي الأوراق الواقعة في جوار الأزهار.
أن تستخدمنا نبتة لتنتشر، فهو إبتكار حديث جداً. فحتى ظهور الزراعة، إكتفت كل أنواع النجيليات
بذاتها لنشر بذورها. لهذا، لديها سنابل وسنيبلات متكيفة بشكل كامل للإنتشار بواسطة
الرياح و / أو بوساطة الحيوانات.
وأسلاف نباتاتنا المزروعة ليست أقلّ. مثل:
القمح ثنائي الحبّة كسلف بري للقمح المزروع؛ الشعير العفوي البري، عبارة عن
سنبلة هشّة، متى بلغت
سنّ البلوغ، تنكسر بسهولة محرّرة السنيبلات. والتي بدورها تتكون من وريقات تنتهي
بسفاة (شعيرات السنبلة) طويلة مزوّدة بما يُشبه الكلّابات الصغيرة مفيدة لاجل
التعلّق بشعر مواليد ثدييات، سواء ماعز، أيّل، خنزير بري أو غزال.
سنيبلات الشعير البري، لاحظوا الشعرات الحاضرة
في سفاة الوريقات
شيء مشابه لما نراه كل يوم في نوع شعير الحائط Hordeum murinum. لدى قريب الشعير،
هذا، عادة سيئة بتعلّق سنيبلاته بجراباتنا. لا يمتلك هذا النوع
كلّابات في السفاة، بل في قاعدة السنيبلة ذاتها.
هذا مثال عن دور الحيوانات بنقل
البذور. في هذه الحالة، تنتقل سنيبلات نوع شعير الحائط عبر البشر!
عالم الأحياء الياباني تاكاو كوماتسودا، باحث منذ
العام 1985 في المعهد الوطني للعلوم الزراعية الحيوية بجامعة تسوكوبا في اليابان،
واحد من الخبراء الحاليين في علم وراثة وتطور الشعير بطول فترة تدجينه.
من بين أبحاثه ما يتصل بالجينين Btr1 و Btr2. هما
مسؤولان عن تكوين سنبلة هشّة تنتشر بواسطة الحيوانات. مع ذلك، يتزود الجينان بزوج
من الأليلات ذات طبيعة متنحيّة، هما btr1 و btr2 واللذان يحثّان
على نمو سنابل غير هشّة.
الأليلان btr1 و btr2 نادران في
الشعير البري. مع هذا، فقد حولهما فعل التدجين الإنتقائي إلى صيغة الشعير الزراعي
مغيّراً إلى الأبد طبيعة سنبلتها. وهذا لم يحصل خلال مرّة واحدة فقط، بل خلال مرتين، فيسود
الأليل btr1 في الزراعات الغربية أكثر، بينما يسود الأليل btr2 في الزراعات
الشرقية أكثر، دليل إضافي على الأصل الثنائيّ لزراعة هذا النبات.
من جانب آخر، نعرف بفضل علم الآثار
بأنّ ظهور السنابل الغير هشّة قد حدث تدريجياً. فقد مثّلت هذه الميزة أكثر من
30% من إجمالي النوع، منذ الفترة الواقعة بين ما قبل 9300 – 8500 عام، لترتفع نسبتها إلى 60% في الألف عام التالية، بالتالي، السنبلة غير الهشّة المنغلقة، قد شكّلت جزءاً من الشعير بطرق التدجين.
A سنبلة حديثة هشّة لنشويّ بريّ، B سنيبلة، C أجزاء السنيبلة بالتفصيل، D قمح مدجّن غير هش، E تفصيل لإنكسار غير مُنتظم للسنيبلة، F الرسم يبيّن التعاقبات المختلفة لسنيبلات
السنابل "الهشّة" باللون الأخضر الغامق، ولسنابل "غير هشّة" باللون التوتي، حيث ينتمي موقع الأسود ورماد لحالات فيها شعير
زيادة الإنتاج (1)
أثّر التدجين في بنية السنبلة أيضاً.
في الشعير، تتكوّن السنابل من ثلاثة سنيبلات (واحدة في المركز واثنتين في الطرفين) مشدودة الى محور طويل. بناء عليه، نقوم بالتمييز بين نوعين رئيسيين للسنبلة ذات
6 صفوف، فكل السنيبلات خصيبة، وذات صفين، فالسنيبلة المركزية
خصيبة فقط، بينما نجد السنيبلتين الطرفيتين منخفضتي النمو ومصابتين بالعقم.
وفق النموذج الاكثر قبولاً، فقد
تولّدت تنوعات الصفوف الستّة إعتباراً من تنوعات الصفوف الثنائيّة. دون الذهاب
بعيداً، لدى نوع الشعير البري العفوي سنابل ذات صفين،
وهو تكيُّف يسمح لسنيبلاته بالتدحرج على الصخور والأحجار عند الوقوع على الأرض. مع
هذا، في مناطق محددة وسط آسيا، عثروا على تنوعات من "الشعير
البري" ذو 6 صفوف والمسمى الشعير البري H. vulgare Agriocrithon والذي اختلف بشكل واضح عن هذا النموذج.
فهل هذا النوع البري هو السلف الحقيقي لشعيرنا المزروع؟
أو هو حالة إستثنائية؟ ما هو أصله؟
بيومنا هذا، مقبول القول بأنّ هذا
النبات ليس سوى نتيجة التهجين بين الشعير المزروع والشعير البري العفوي.
في الأعلى سنبلة شعير بري عفوي، في الوسط سنبلة شعير " ذات صفين" ، في الأسفل سنبلة شعير "ذات 6 صفوف"
سنتكلم الآن عن الدليل الاثري
المتوفر. حتى قبل 9000 عام من الآن، لم يكن الشعير ذو صفين قابلاً للتمييز
عن "الشعير البري" عملياً. حتى أن السنابل قد احتفظت بخاصيتها تلك ببداية
التدجين. فقط، في طبقات تعود الى الفترة 8800-8000 عام قبل الآن، نبدأ بملاحظة حضور
بقايا تنوعات مزروعة منه (يمكن تمييزها بفضل سنيبلاتها المنغلقة) ذات الست صفوف،
والتي ستسود في الأراضي الخصبة، في طمي الهلال الخصيب وبلاد الرافدين منه على وجه
الخصوص كما في مصر القديمة منذ 7000 و 6000 عام، حيث جرى استبدال السنبلة ذات
الصفين واعتماده كزراعة ذات أهمية خاصة بحضارات العصر الحجري الحديث في شرق المتوسط.
عملة من مستعمرة يونانية قديمة في إيطاليا، في الفترة330-340 قبل
الميلاد، على أحد وجهيها الشعير ذو الست صفوف. على وجه قطعة العملة الآخر ،صورة ليوكيبوس فيلسوف وأول يوناني قد طوّر الفكرة
القائلة بأنّ المادة مكونة من ذرات
بالنهاية، نتابع مع دراسات جزيئية
مُتواصله مع العالم الياباني تاكاو كاماتسودا.
يُضبَطُ عدد
الصفوف بواسطة جين وحيد هو Vrs1. والذي نعثر
على أليلين له، واحد سائد (Vrs1) مسؤول عن خاصية "الصفين"، وآخر متنحي (vrs1) مسؤول عن خاصية
"الست صفوف".
عمل الجين ليس صعباً على الفهم.
ينتمي هذا الجين لمجموعة بروتينات تسمى I HD-ZIP، وهي بروتينات
قادرة على التعرُّف على سلاسل مؤكدة من الحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين DNA والإتحاد بها
مانعة أو مفضّلة (بحسب الحالة) التعبير لمجموعات محددة من الجينات، هكذا، يُركّب
الأليل Vrs1 بروتيناً، والذي باتحاده بجينات محددة، يكبح نمو وبلوغ
السنيبلات الجانبية في السنابل ثلاثية السنيبلات.
سبّبت طفرة في الأليل Vrs1 بتوليد أليل vrs1، الذي يُركِّب بروتين لا يمكنه القيام بوظيفة كتلك. بصيغة لا يمكن فيها لأيّ كان تحقيق منع أو كبح نمو السنيبلات الجانبية، فهي تنمو معطية المكان لظهور سنيبلات ذات 6
صفوف. هذا حدث بصيغة مستقلة على الأقل في ثلاث مناسبات:
في غرب المتوسط، في شرق
آسيا، وهو اليوم الأليل الناتج ذو
التوزُّع العالمي.
اختفى نوع الشعير ذو الصفين من الهلال
الخصيب وشمال افريقيا منذ 7000 – 6000 عام، فيعود ليظهر كما لو أنه من اللاشيء في
هاتيك المناطق. حدث هذا حوالي القرن العاشر الميلادي، إثر هذا بقرنين او ثلاثة
قرون، ربما جُلِبَ من قبل الحملات الصليبية، حيث وصلت تنوعات الشعير ذو الصفين إلى أوروبا، وساد بعد ذلك تنوّع الشعير ذو
الصفوف الستّة.
تدرُّج بسنيبلات ذات صفين وذات 6 صفوف،
A تنوعات أثيوبية، B شعير برّي، C نوع
مزروع "ذو صفين" من السنيبلات الجانبية العقيمة، D شعير بري نوع صيني proskowetzii، E شعير مزروع " ذو 6 صفوف "
بذور عارية
كما رأينا في المواضيع السابقة، فإنّ
بذور أسلاف الذرة والقمح محميّة بغطاء نباتي، حماية قد اختفت عند متحدريها
المزروعة كنتيجة لإنتقاء مفروض خلال عملية التدجين. مع هذا، يختلف الوضع في
شعيرنا، فبذوره محميّة بغطاء ملتصق بشدّة بها.
حسناً، الآن، كيف احتُفِظَ بهذه
الحماية؟
السبب في استعمالات النبات، فأغطية كتلك هي مفيدة لمعالجة المُلت (الحبوب الناتشة صناعياً ولا سيما حبوب الشعير التي تستعمل في
صناعة الجعة .. قاموس المورد إسباني عربي) خلال عملية تحضير الجعة، من
جانب آخر، يُستخدم الشعير كغذاء للحيوانات التي لا تشتكي عادة عندما تصادف بذور
محمية بهذا الشكل. من يشتكي بالغالب هم البشر.
فانواع الشعير، التي نستعملها بتحضير
منتجات المعجنات بذورها عارية، ومن المعتاد أن تحضر 6 صفوف فيها وقد ظهرت
لأوّل مرة منذ 8000 عام، قبل ان تنتشر زراعة الشعير من الهلال الخصيب والهند
الغربية الى باقي العالم القديم.
يتحدد عري تلك البذور بوجود
جين وحيد اسمه Nud، يقوم بتركيب بروتين يضبط تخزين سلسلة
من الشحميد على سطح البذرة، وهي أساسية للسماح بالتصاق وثبات أجزائها عليها ذاتها. لا
تسمح طفرات هذا الجين بتخزين شحميد، ولا يمكن التصاق تلك الاغشية النباتية، ما
يحقق استمرار العُري للبذرة. بالحال، انتُقِيَت تلك الطفرات لتصبح تنوعاً مألوفاً
لكثير من الأنواع المزروعة من الشعير.
في أنواع شعير "ذو صفين"، A إلى اليسار بذور مغطاة B .إلى اليمين بذور عارية، سنابل
زيادة الإنتاج (2)
بلغت سنبلة الشعير الكمال في الفترة (10500-9500 عام قبل الآن)، ليتضاعف عدد السنيبلات ب3 والتي تمكنت من
الإنتاج في الفترة (8800-8000 عام قبل الآن) وفقدت تغطيتها الحمائية "التي
صعّبت" التحكم بها كغذاء في الفترة (8000 عام قبل الآن)، كذلك، أخذ حجم
حبّتها بالنموّ.
مقطع عرضي بحبيبة شعير بري في اليسار، ولنوع مزروع في اليمين
في هذا الجانب، السجلات
الأحفورية وصفيّة بقوّة. فقد قام الباحث الاثري النباتي جورج ويلكو George Willcox العامل في
المركز الوطني للبحث العلمي في ليون – فرنسا بمقارنة بذور الشعير البري (في عملية
تدجين واسعة) بطبقات أثرية مختلفة في حوض الفرات الواقع شمال سورية،
في منطقة جرف الأحمر الباكر (9800-9700 عام قبل الآن) والمتأخر (9400-9300 عام
قبل الآن)، وموقع دجادي (9400-9000 عام قبل الآن) وكوزاك الشمالي (6050 ± 100 عام قبل
الآن)، حيث يُعتبر الموقع الأخير تمثيل غير مسبوق لمرحلة العصر النحاسي، عندما بدأ البشر
لأوّل مرة باستعمال المعادن.
تبيّن دراسة جورج ويلكو إتجاهاً هاماً،
ولو أنه بطيء وتدريجي زمنياً، نمت خلاله بذور الشعير في الحجم كما في الثخانة.
مقارنة بين بذور الشعير في المواقع
المذكورة أعلاه في حوض الفرات. لاحظوا النمو في الثخانة، إحداثيات
رأسيه، وفي العرض، إحداثيات أفقية، بمضي
الزمن
وهذه لم تكن
كل التغيرات الحاصلة. فتحتاج كثير من تنوعات القمح والشعير، كما أسلافها البرية، إلى
بضع أسابيع من التعرُّض للبرد (استبراد) – بين 0 الى 10 درجات مئوية – لكي تتمكن
من الإزهرار بشكل طبيعي، ولن يتحقق الإزهرار دون هذا التعرُّض للبرد. هذا الاحتياج
التجلُّدي، اسمه الإستبراد (معالجة البذور بالبرد بغية تسريع إنتاشها – إنباتها
– وتسريع نموّ النبات وأزهاره .. قاموس المورد اسباني عربي). هكذا تسمى هذه
النباتات بالنباتات الشتوية، تُزرع بأواخر الصيف أو بدايات الخريف، حيث تتعرّض
للبرد خلال الشتاء، وتُزهر بقدوم الربيع.
لكن البرد
الزائد يقضي على الغرسات، أي بأماكن أكثر إرتفاعاً، مع هذا يُزرع في تلك
الإرتفاعات الشعير والقمح، لكن كيف يمكن تحقيق هذا؟
الإستبراد عملية معقدة، يشترك فيها عدد من الجينات، أهمها هذه الأيام:
أولاً: VRN1، يتحفَّز تركيبه من البرد، يقوم بكبح الجين VRN2 ويحثّ على
تحقيق الإزهرار.
ثانياً: FT، خلال الأيام طويلة (مدة النهار طويلة)، يُحفِّز تركيب الجين VRN1 ويسرِّعه.
ثالثاً: VRN2، يكبح
الجين FT ويُنهي الإزهرار.
علم وراثة إستبراد البقوليات
هكذا يقترح نموذج راهن، بأنّه خلال
فترة شباب النبات، أثناء الصيف و الخريف، يمنع الجين VRN2 تعبير الجين FT، وباعتبار أنّ
مستويات الجين VRN1 منخفضة فلن يوجد أي حافز
جيني لتحقيق الإزهرار. عند حلول فصل الشتاء، يُحفِّز البرد تعبير الجين VRN1 الذي بدوره
يُعيق ويُخفِّض تركيب الجين VRN2. وحين حلول فصل
الربيع، تنخفض مستويات الجين VRN2 كثيراً،
ما يجعل بإمكان الجين FT التعبير بحريّة،
الأمر الذي يحفّز تعبير أكبر للجين VRN1 ليبلغ تركيزاً
عالياً فيمتلك "القوة"، الآن، لتحقيق عملية الإزهرار.
حسناً، الآن، تمنع طفرات ملموسة في
الجين VRN1 ضبطه، فلزوم فترة البرد ليس لتعبير هذا الجين، بل لان تلك الطفرات
سبّبت حدوث تعبير كذاك بصورة حادّة كل الوقت، محفزة بهذا الشكل إزهرار سابق لأوانه.
تصل طفرات أخرى في الجين ،VRN2 هذه المرّة،
إلى منعه من تحقيق عمله، وكنتيجة لهذا، يعبّر الجين FT الذي بدوره
يحفز الجين VRN1، والذي بدوره يُحفِّز
الإزهرار.
جدول الضبط الجيني لإستبراد البقوليات
في الحالتين، لا تحتاج النباتات
الإستبراد للإزهرار. تحتاج تلك التنوعات من القمح والشعير لفصل الربيع، يمكن
زراعتها بنجاح في مناطق باردة بهذا الفصل. حيث يمكن زرعها في بدايات الربيع ودون
الحاجة لفترة باردة، بحيث تُزهر وتُثمر بحلول
الصيف متفادية، بهذا الشكل، الجليد الشتويّ الذي يقتلها.
الجعة، متى؟
وأين؟
للآن، رأينا متى عرفنا الشعير. أين
ومتى بدأت زراعته. كذلك رأينا كثير من التغيرات المُرافقة لتدجينه، كالطفرة
والإنتقاء اللاحق، والقادرة على تحقيق تعديلات جوهرية في بيولوجية هذا الكائن.
مع
ذلك، متى ظهرت الجعة؟ أين وُجِدَ أصلها؟
ليست أسئلة سهلة. بحسب كثير من
الباحثين، يعود تاريخها إلى 8000 عام قبل الآن، في أوج تقنيات زراعية
وبدايات صنع الخبز. فحبّة البقول، بذاتها، ذات قيمة غذائية قليلة، فهي كربوهيدرات بشكل
رئيسي مع إحتواء بروتيني قليل (12 – 13 %) ونقص كبير بالحموض الأمينية
والفيتامينات.
مع ذلك، تتمكّن عمليّة التخمير من تبديل كل هذا.
لوح مسماري يعود للعام السادس لتولي
كاهن مدينة لغش السومري الحكم، قبل 2.370 عام. وثيقة إدارية حول تحضير 3 أنواع من الجعة وتبيان
كميات الشعير اللازمة ومكونات أخرى ضرورية لتحضيرها
تمّ تحقيق التخمُّر بفضل الخميرة،
التي هي عبارة عن فطريات وحيدة الخليّة، ونوع السكيري هو الجنس الأبرز منها، حيث تحوّل تلك الكائنات الحيّة في غياب
الأوكسجين السكريات الموجودة في حبّات الشعير الى الإيتانول (كحولنا) وثاني أوكسيد الكاربون (CO2). وأثناء الحالة العجينية الرطبة، ستزيد الخمائر من المحتوى
البروتيني، وستعوّض نقص بعض الحموض الأمينية وتُركِّب فيتامينات جديدة، أي أنها تزيد من القيمة الغذائيّة.
يمكننا ملاحظة مشهد سابق لتحضير الجعة،
من خلال مشروب مستوطن في منطقتي النوبة والسودان، هو مشروب البوظة والمحضّر
اعتباراً من طحين الشعير. في تحضيره، يتم تحويل ثلاث أرباع الكمية من الشعير الى
عجينة مع خميرة إثر تعريضها للنار الخفيفة، حيث يُسمح لتلك الفطريات متابعة عملها.
من جانبه، الربع المتبقي من الشعير رطب ومعرض للهواء الجوي، قبل دقّه (خطوة
تذكرنا بتحضير المولت). لاحقاً، يجري خلط العجينة كما الربع المدقوق ويُترك الخليط
للتخمّر في وعاء مع الماء. لاستهلاكه، فيما لو يُصفّى المُنتج النهائي،
نحصل على مشروب شبيه بالجعة، لكن، لدينا غذاء عالي القيمة، والذي
يذكرنا بأكلة الميغاس (عبارة عن خبز مفتت ومقلي ومغموس
بالحليب .. قاموس المورد اسباني عربي).
نرى من خلال
هذا المُنتج اتصال وثيق بين تحضير الخبز والجعة، هذا المشروب الذي تحوّل إلى
عنصر أساسي في غذاء مجتمعات الهلال الخصيب ومصر القديمة. حتى انه وفق بعض الباحثين
يمكن القول بأنّ الخبز والجعة عنصرين قد تمّ تحضيرهما في ذات المكان. في مصر
القديمة، نعثر على الأدلة المبكرة على تحضير الجعة في عصر ما قبل الأُسَرْ خلال
الفترة (5500 الى 3100 عام قبل الآن)، ولو أنّ كثير من الباحثين يعتبرون الهلال
الخصيب الموطن الأساس للجعة، في أرض الرافدين منه بالتحديد، وهي إحدى ثمرات
بابل منذ 8000 عام قبل الآن. فليس صدفة عثورنا على أحد أقدم الأدلة على تحضير
الجعة في موقع التلّ الكبير أو تيبي غاورا بشمال العراق،
والذي يعود الى 6000 عام قبل الآن.
من حفريات قرب منطقة نينوى بموقع التل الكبيرشمال
العراق قبل 6000 عام، عبارة عن ختم عليه شخصين يشربان الجعة أو مشروب شبيه
لقد تحولت الجعة إلى مشروب شعبي في مصر القديمة والهلال الخصيب، حيث لم
تُحضَّر من الشعير فحسب، بل من أنواع مختلفة من القمح كذلك. استهلكتها
الطبقات الإجتماعية المختلفة، سهلة التحضير (قياسا بخمور أخرى كالنبيذ مثلا، فأشجار العنب ليست سهلة الزراعة والإنتاج كما هو حال البقول)، كما أنها اعتُبِرَت غذاءاً اوليّاً. دُفِعَت رواتب ومهور أعراس على شكل جعة. كما
استُعمِلَت كدواء أو مستحضر تجميلي لعلاج بعض الحالات كالإنزعاج المعدي أو
السعال وغيرها. الجعة، هي العنصر الفاعل في الإحتفالات والسهرات. لقد
بلغت أهميتها حدّاً، نالت بموجبه تحضير مراسيم شرعنة.
حضر في خمّارات الجعة بشرق
المتوسط الموسيقى والدعارة.
حتى أننا نجد في قصيدة سومرية، الآتي:
برزت أعضاء الإلاهة إنانا،
إلاهة الحبّ والحرب، التناسليّة "كحلوى مثل الجعة". فحتى الآلهة، لم
تستطع مقاومة الجعة. نينكاسي، هي إلاهة الجعة
والكحول وكمرافقين الإله دموزي أو تمُّوز، إله الخصب البابلي، الإله إنليل،
الإلاهة المصرية حتحور أو الآلهة اليونانية إلاهة الزراعة ومحاصيل الحبوب سيرس وديونيسيوس.
هل تحتاج الصورة لشرح؟ فالصبيّة تشرب الجعة. لوحة من بابل القديمة 1.800 قبل
الميلاد معروضة في المتحف البريطاني
أباريق جعة، عُثِرَ عليها في فلسطين
وتعود لعصر الحديد
أثر مصري قديم من زمن الأسرة الثامنة
عشرة، يعود إلى 1.350 قبل الميلاد، حيث يشرب مهني الجعة
المصدر الاسباني:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق