6. Semejanzas y diferencias del infierno en ambas composiciones poéticas.
La primera analogía que encontramos entre la Odisea y el poema de Gilgamesh tiene que ver con uno de los universales temáticos en la historia de la literatura: El Viaje. Éste constituye uno de los elementos centrales en ambas obras y guarda una estrecha relación con nuestro objeto de estudio, brevemente citada con anterioridad.
Pensamos que desde la perspectiva del relato, el viaje es utilizado para refrendar la excelencia del héroe; tanto el complicado trayecto, cómo el «infernal» destino, o el difícil regreso, ponen de manifiesto la grandeza de nuestros protagonistas. No cabe imaginar prueba más complicada para un ser humano, que la de llegar al infierno y sobrevivir a la experiencia.
En estrecha relación con lo que venimos diciendo, hemos de tener en cuenta otro factor importante: La búsqueda de la Sabiduría. A nuestro juicio el viaje al infierno tiene dos claros «pretextos» para su inicio; por un lado, Ulises es aconsejado por la hechicera Circe para llegar al Hades a entrevistarse con el adivino Tiresias y así, conocer la forma de regresar a casa. De otra parte, Gilgamesh habiendo descubierto la fragilidad humana con la muerte de su amigo Enkidu, marcha al inframundo buscando la inmortalidad.
Pero más allá de motivos concretos, el viaje a los infiernos se nos muestra como una forma de adquisición del conocimiento. ¿Qué mejor lugar p
ara obtener respuestas?, los dos héroes adquieren mayor sabiduría de la que poseían al iniciar su terrible aventura, y para ello el episodio del «descenso» resulta vital.
Gilgamesh.- “Haré que el mundo conozca a aquél que vio el abismo,
a quién conoció los mares, comprendió todo,
a quién escruto por sus cuatro confines la tierra Entera.”
Gilgamesh, T. I, 1-3
6. تشابهات وإختلافات الجحيم
في الملحمتين
التشابه الرئيسي بين ملحمتي الأوديسة وجلجامش هو إعتماد موضوع كونيّ في تاريخ الأدب، حيث يرتكز إلى السفر أو الإنتقال.
هو أحد العناصر المركزية في الملحمتين ويرتبط بعمق مع هدفنا من هذه الدراسة، الذي أشرنا له بإقتضاب سابقاً.
نرى بأنه إنطلاقاً من وجهة نظر سردية، يُستخدم السفر أو الإنتقال لأجل تثبيت مكانة البطل؛ سواء من خلال وعورة الدرب، أو عبر المصير "الجحيمي"، أو العودة الصعبة، وتسهم كلها بإظهار صور البطولة لدى الشخصيات الأساسية في الملحمة.
لن نتمكن من تخيل موقف أصعب، من الوصول إلى الجحيم وعيش التجربة، يمكن أن يمر إنسان به.
كذلك،
يجب أن نأخذ عامل هام آخر بعن الإعتبار، ونقصد:
البحث عن الحكمة أو المعرفة.
برأينا المُتواضع، للسفر أو الإنتقال إلى الجحيم سببين واضحين لكي يبدأ.
فمن جانب، يتلقى عوليس نصيحة من كيركة لكي يتوجه إلى هاديس ويلتقي بتيرزياس، وبهذا، يعرف طريق العودة إلى الوطن.
من جانب آخر، ما إن يكتشف جلجامش الضعف البشري بمواجهة موت صديقه أنكيدو، حتى يقرر الذهاب إلى العالم السفلي بحثاً عن الخلود.
لكن، بعيداً عن أسباب بعينها، يُعتبر الإنتقال إلى الجحيم صيغة لإكتساب المعرفة.
فأيّ مكان أفضل منه لأجل الحصول على أجوبة؟
يكتسب البطلان، عوليس وجلجامش، حكمة أكبر مما حضر
منها لديهما قبل البدء بالمغامرة الفظيعة، ولهذا، فصل "الهبوط" حيويّ في
الملحمتين.
"هو الذي علم وأدرك كل شيء، مُستوعب الحكمة، الذي فهم جميع الأشياء".
ملحمة
جلجامش، اللوح الأول
ربما يحدث مع البطلين شيء شبيه "بولادة شخصية جديدة" إثر قيامهما بزيارة عالم الموتى، كما يقول كامبل19.
بالنهاية، سيعكس الإنتقال إلى الجحيم، بالنسبة لنا، وظيفتين مشتركتين في الملحمتين، هما:
1. اكتساب الحكمة، ويُرمَزْ لها بالبحث عن المعرفة.
2. تجربة بطولية، تتمثل بخوض
مغامرة ومواجهة صعاب هائلة.
لا يوجد شكّ، في العموم، بأنّ الألفة مع الموت، أو مع نهاية الصلاحية البشرية على الأقلّ، يمكن أن تشكل درساً حياتياً مفيداً.
ويبدو أنه يجري تجنب التطرُّق لهذه القضية بالكامل في المجتمعات الراهنة.
بمتابعة الخط البحثي، يتوجب علينا الحديث عن "الطريق" إلى الجحيم و"نقطة الدخول إليه".
في
هذا المنحى، نجد تشابهاً كبيراً بين الملحمتين، بحيث تحضر فكرة الإنتقال المزدوج:
الأفقي
والعمودي.
ففي الأنشودة الحادية عشرة من الأوديسة، يصل عوليس إلى الهاديس من خلال سطح الأرض، رغم حضور فكرة الهبوط إلى جانب إسترحام الموتى.
كذلك، في اللوح الثاني عشر من ملحمة جلجامش، يبدو طريق جلجامش أفقياً إلى العالم السفلي، لكن، كذلك، تحضر فكرة عمق المكان ببعده المادي.
يتميز الطريقان، سيما بمنطقة المدخل، بوجود صعوبات، وإن يكن هناك بعض الإختلافات الطفيفة التي يتوجب علينا التنويه إليها.
يتحقق إنتقال جلجامش الصعب على سطح الأرض، فيما يبدو مدخل العالم السفلي عبارة عن "نفق"20، يحرس الرجال العقارب، الذين يعملون بخدمة الإله شمش، بواباته.
في
حالة عوليس، تعقَّدَ الوصول إلى الهاديس لدرجة أن الموتى إحتاجوا إلى دليل، ودليلهم
الإله هرمز. ينتقل عوليس بحراً ثم على الأقدام، وهي معلومات واضحة في النص:
"وهنا، رمينا مراسينا، وهبطنا بالكبش والشاة إلى البر، وتابعنا سيرنا إلى حيث أمرتنا كيركة".
الأوديسة،
الأنشودة الحادية عشرة
نسبة للجحيم، هناك تشابهات مثيرة مثل الغابة الميتة في الأوديسة والغابة الحجرية في جلجامش.
ففي الملحمتين، توجد إشارات إلى عناصر طبيعية، تبدو هي ذاتها في عالم الأحياء، لكن، بصورة سلبية:
الخُضرة، الثمار، المياه، ...الخ.
ففي أحراش بيرسيفوني المقدسة، تعطي الأشجار "ثماراً ميتة".
بينما يجد جلجامش، بعد إجتياز نفق الإله شمش، حديقة غنّاء تعطي أشجارها ثماراً على شكل أحجار كريمة.
أما بالنسبة للمياه، الحاضرة في مدخل الهاديس، فهي شيء آخر مشترك في الملحمتين.
ولو أنه يجب التنويه إلى أن بحيرة إيستيجيا لا تظهر في الأنشودة الحادية عشرة من الأوديسة، ولا يصفها عوليس كجزء من المكان الذي سنحت له الفرصة الحضور فيه، لكن، تظهر في مكان آخر من الملحمة كما رأينا.
كذلك، يوجد "بحر مُهلِكْ أو بحر الموت" في العالم السفلي، الذي يزوره جلجامش، وهي مياه يجب أن يعبرها كي يُعتبر "ضيفاً جحيمياً من الطراز الأول".
تظهر، على هامش هذا العُنصر (الجحيم)، عدّة شخصيات، فمن جانب، تظهر شخصية الملاح أورشنب ورجاله المصنوعين من حجر (تماثيل حجرية) والمستخدمين في تحريك القارب، حيث يتسبب لمس تلك المياه بالموت للبشر، لكن، لا يتأثر أورشنب ورجاله من لمسها.
ومن جانب آخر، تظهر شخصية صاحبة الحانة، التي يسألها جلجامش عن طريق الوصول إلى أوتنابشتيم، فتجيبه قائلة:
"ماذا ستعمل حين تصل إلى مياه الموت؟ يا جلجامش، هناك أورشنب ملاح أوتنابشتيم وتماثيله الحجرية".
ملحمة
جلجامش، اللوح العاشر
في الاوديسة، لا تظهر شخصية الملاح كارونتي، لكن، تظهر في الأدب اليوناني واللاتيني بوقت لاحق.
يمكن ملاحظة حضور فارق هام بين الملحمتين، حين يجري التدقيق في القسم الأخير من النص، لا يلتقي عوليس بأيّة شخصية "مميتة" خلال "زيارته للجحيم"؛ بينما يلتقي جلجامش بالحكيم أوتنابشتيم، وهو إنسان، ولكن، يتمتع بصفة الخلود ويعيش هناك في المكان الأبعد مع زوجته، التي تبدو إنسانة وخالدة مثله، ونعرف كيفية حدوث هذا الخلود من خلال نجاتهما من الطوفان الكوني.
نتابع الحديث عن "سكّأن" تلك العوالم العميقة، ففي محلمة هوميروس "الأوديسة"، يجري تقديم الموتى على أنهم أرواح، في كامل الملحمة وبإستخدام أوصاف مختلفة.
لكن، يبيّن النص أنها ذات ميزة غير مادية، ويمكننا رؤية مثال عن هذا من خلال حديث عوليس مع والدته:
"كنت أود أن أضمها إلى صدري، بيد أني فشلت مرة وأخرى وثالثة، إذ كانت تتحرك، في كل مرة، بين ذراعي كما يتحرك الظلّ، أو كما يسري الحلم".
الأوديسة،
الأنشودة الحادية عشرة
يصعب تفسير هذا الأمر في ملحمة جلجامش، ولا توفر الملحمة مثالاً واضحاً حوله لنا:
"أيها البطل نرجال، إفتح هوّة، الآن، كي يخرج شبح أنكيدو من الجحيم. رأى أحدهما الآخر وتعانقا، تناقشا إلى درجة الإنهاك".
ملحمة
جلجامش، اللوح الثاني عشر
إن يكن بالإمكان عناق الشبح، بالتالي، نحن أمام شيء قابل للمس على أقلّ تقدير.
في هذا السياق، يعيش الميّت أنكيدو حياة "قاسية"، يقدمها لنا كإنعكاس لوجوده السابق، أي يبدو أن الموتى يستمروا بإبداء الحاجة إلى بعض الأشياء الخاصة بالأحياء، مثل الأغذية على سبيل المثال:
"هناك مدخل للبيت، لكن لا مخرج له، يُحرَمْ سكانه من الضوء وطعامه غبار وخبزه كالآجر المحروق".
ملحمة
جلجامش، اللوح الثاني عشر
كما لاحظنا طوال الموضوع، تتضح العلاقة بين الشخصيات والمكان الذي "يحويها" بصورة جليّة. حيث يعمل الجحيم، بوضوح، ككناية لأبطال الملحمتين.
في ذاك المكان، يخضع "المقيمون" لسلسلة من القواعد أو القوانين، تراتبية معينة، ...الخ، وفي ظلّ وجود علاقة لصيقة بحيواتهم السابقة، لنضع بعض الأمثلة:
بالنسبة لعدد الأبناء:
"هل رأيت من لديه إبن واحد؟ رأيته، ووتد معلق على جداره، وهو يبكي عليه بحرقة. هل رأيت من لديه إبنين؟ رأيته، يجلس على آجرتين ويأكل الخبز. هل رأيت من لديه ثلاثة أبناء؟ رأيته، يشرب الماء من قربة معلقة على مسند. هل رأيت من لديه أربعة أبناء؟ رأيته، مثل رجل عنده حمارين، ويبتهج قلبه".
ملحمة
جلجامش، اللوح الثاني عشر
بالنسبة
للموت المُشرّف:
"هل رأيت أحداً من قتلى المعارك؟ رأيته، يسند أبوه وأمه رأسه وتبكي زوجته عليه".
ملحمة
جلجامش، اللوح الثاني عشر
بالنسبة
للموت في المنفى أو لمن لا عائلة لديه:
"هل رأيت من أُلقيَ جثمانه في البرية؟ رأيته، روحه هائمة منزعجة في العالم السفلي. هل رأيت من ليس لروحه من يتذكرها (بالقرابين الجنائزية)؟ رأيته، يأكل فتات الأرض الماخوذة من فضلات القدر الملقاة في الشارع".
ملحمة
جلجامش، اللوح الثاني عشر
يتم
تأكيد الإرتباط بين عالم الأحياء وعالم الموتى، عبر:
إجراء ملاحظة دقيقة تطال الطقوس الجنائزية، إمكانية الدفن من عدمها، طرق الموت التي تفرضها ظروف حياتية ما، تقدمات دورية من قبل عائلات الموتى، يؤكد كلّ هذا وجود رابط قويّ بين العالم هنا والعالم الأبعد هناك في ذهنية أولئك البشر، حيث يعكس النص الملحمي هذا الأمر بوضوح شديد.
نعثر على تشابهات واضحة في حالة العالم اليوناني، حيث يمكننا تذكر عادة دفن الموتى ووضع قطعة نقود في فمهم، كي يدفعوها للملاح كارونتي على سبيل المثال. ولو أنه لا تظهر عناصر سابقة في الأوديسة بشكل صريح، فيبدو أن الموتى المقتربين من عوليس، قد أصابهم جميعاً موت "غير عادي"، كما تظهر لنا فكرة مقتضبة عن المحاسبة على أعمال الدنيا.
من خلال متابعة بحث المقارنة هذا، يتضح إحتفاظ موتى ملحمة جلجامش بالذاكرة، بالإضافة إلى إحتفاظهم ببعض العادات والإحتياجات.
مع ذلك، لا يملك الموتى عقلاً أو إدراكاً في الهاديس الهوميري، ويجري تقديمهم ككائنات غير قابلة للمس. ولكن، كما علقنا سابقاً على هذه النقطة، يجب التدقيق في تناقضات النص على هذا الصعيد. فقد تكلم بعقل راجح كل من تحدث من أرواح مع عوليس، صحيح أن جرعة الدم قد أعادت العقل لهم، لكن، كيف لكائن روحي أن يأكل أو يتجرّع شيء؟
كذلك، إن لم يستطع عوليس لمس أولئك الموتى، كيف يمكن إخافتهم بسكين؟، فمن الصعب جرح أو قتل كائن "غير حيّ". ربما في هذه الحالة الأخيرة، يمكن تبرير خوف الأرواح من خلال إستعادتها للذكريات ويربطون ظهور السكين بآثار مُهلكة بالنسبة للإنسان.
قمنا بمقارنة بين عناصر مختلفة حاضرة في الجحيم في الملحمتين:
السفر أو الإنتقال كبحث وإختبار، خط المسير، المدخل، أوصاف المكان ومناطقه.
في النهاية وبإتباع ذات الترتيب، يتوجب علينا التحدث بإقتضاب حول الآلهة أو الكائنات الجحيمية.
ذكرنا فيما سبق غالبية ما ورد منها في جحيم ملحمة جلجامش أو في العالم السفلي.
في الأوديسة، لم يلتقِ عوليس بأيّة آلهة، رغم أنه جرت الإشارة إلى الهاديس بوصفه ملك الشياطين وملكته بيرسيفونية، لكن، لم يجتمع عوليس بهما أبداً، ولم يرَ أيّ حيوان خرافي، حيث توجد إشارة سريعة إلى الحارس والعفريت.
"بيد أن جموع الموتى المحتشدة، التي أقبلت صارخةً، قد ملأت قلبي رعباً، وخفت أكثر أن ترسل بيرسيفونية، ملكة هاديس، فتفعل الأفاعيل بي، فآسرت أن أسرع إلى مركبي، وأمرت الملاحين فأقلعوا، وجلسوا على الظهر، ومخرنا عباب البحر المحيط، بعد أن أعملنا المجاديف لوقت غير طويل".
الأوديسة،
الأنشودة الحادية عشرة
7. الخاتمة
لأجل تطوير منهجي أفضل، فصلنا عالم الموتى، كمكان شعريّ، لكن، حافظنا على علاقته اللصيقة مع عناصر كونية أخرى ضمن النص.
في هذا الإتجاه، العناصر الزمانية والمكانية أساسيّة21.
وبما يخص هذه العناصر، نجد أن أهمية كبرى تحيط بكلمات عالم اللغويات الروسي باجتين، الذي يعتبر أنّ الزمن عبارة عن بُعد رابع للمكان ويشكل قياس الزمن مفهوم معمول، بشكل خاص، لأجل الإشارة إلى هذا الحشد من فضاءات الزمكان في التأليف الأدبي.
لا تبدو الإشارة إلى الزمن، في الهاديس الهوميري، بكل هذا القدر من الأهمية.
يُنفِّذ عوليس أعمالاً مختلفة خلال وجوده فيه وصولاً إلى الخروج النهائي منه، نفترض بأنه لم يستغرق زمناً طويلاً بعمل كامل رحلته.
في جميع الأحوال، لا نمتلك أيّ مؤشر زمني، بل تعاقب رؤى شبحية تصل بسرعة نحو سطح الأرض.
توفر ملحمة جلجامش معطيات أكثر حول الزمن خلال زيارته للعالم السفلي أو الجحيم، بحيث يتولد إنطباع يفيد بإمضائه لزمن أطول مقارنة بالزمن الذي أمضاه عوليس في جحيم الأوديسة.
بل حتى يظهر البُعد الزمنيّ واضحاً خلال حوار جلجامش
مع أوتنابشتيم حول الخلود.
لا يبدو الزمن مهماً في إدراك كائنات العالم السفلي في الملحمتين.
فإن تكن الحياة محدودة وتنشأ كإنتقال واعي نحو الموت، فبمجرد "التواجد" في عالم الموتى، يفقد الزمن معناه؛ لأن التواجد في الجحيم "أبديّ" أو قد لا يصبح له وجود.
ربما، لهذا السبب، بالكاد نجد إشارات له.
يصل الفارق الزمني بين كتابة الملحمتين، جلجامش والأوديسة، لأكثر من عشرين قرناً.
مع ذلك، ما يدهشنا هو عثورنا على تشابهات تلغي أيّ بُعد.
لا شكّ بأن موضوع الجحيم يترافق مع القلق من الموت، بإعتباره قضية فلسفية وكونية، ولعلّ هذا الموضوع قد شكّل، ومايزال يشكّل، محرّكاً هائلاً للإبداع الفنّي وعلى مدار التاريخ.
ومهما يكن حجم التشابه بين عناصر الجحيمين على مستوى الترتيب ووضع الإنتقال والشخصيات التي تقطنهما، الوظائف الإلهية، ...الخ:
فهو يدفع إلى التأمل والتفكير بصورة طبيعية.
بذات الطريقة، وفي الملحمتين، وفي النقطة التي تهمنا في المكانين "التحت أرضيين"، يظهر عنصر آخر مرتبط بالنشاط البشريّ، هو:
الإنتقال أو السفر.
خلال تاريخه الطويل، وجب على الكائن البشري الإنتقال والسفر لأسباب مختلفة، قد ترافق، غالباً، مع فكرة البقاء على قيد الحياة:
بحثاً عن ظروف مناخية أفضل، بحثاً عن موارد أكثر، بسبب إمتلاك الفضول والحاجة لإكتساب خبرات جديدة، ...الخ.
لكن، لم يقتصر الإنتقال على البُعد المكاني، من مكان لآخر، بل قمنا بهذا الأمر دون حدوث إنتقال جسديّ.
كهروب من أنفسنا، على سبيل المثال، أو بصورة غير واعية، عبر "إنزلاق" مؤقت حتمي، يشكل جوهرنا الخاص الميّت.
بالنسبة للوعي البشري، تشكل الحياة سفراً زمكانياً، يبدأ مع لحظة الولادة وينتهي بلحظة الموت كآخر إنتقال، لا يمكن تفاديه كمصير، وهنا، يبدو "الجحيم أو العالم السفلي أو الهاديس" المقصد النهائي.
وهو
مكان، وإن يتصف بالقسوة، فهو يتسم بالعدل، كذلك.
بما يخص رابط "الإنتقال" هذا إلى المكان الأبعد هناك، ننوّه إلى وجود فارق هام، بناءاً على المنطق الأرسطي المعروض في كتابه "الشعر":
تُبنى حبكة القصّة على فعل عام وحيد هو إنتقال عوليس والعودة إلى وطنه إيثاكا؛ بينما لا نجد وحدة الحبكة هذه في ملحمة جلجامش، بل نجد عدة مواضيع تدور حول مغامرات مستقلة غايتها تلميع صورة البطل الرافديّ، لكن، لا يشبه هذا ما يحضر في التركيب اليوناني، حيث يطغى حضور فعل عام معروض بوضوح بشكل صريح من أول لحظة في الملحمة.
في النهاية، توفر الملحمتان رؤية عن الشعوب التي كتبتهما وإمتلاكها لنظرة تشاؤمية مرتبطة بالزمن، وهو ما يدعونا للتفكير في إتصالات ثقافية ما بين الشرق القديم وعالم اليونان القديم.
تُقدَّمْ منطقة الموتى، بوصفها المصير الجحيمي، لكن، العام، بحيث ينتظر الجميع وبشكل مستقلّ عن أعمالهم الحياتية ويتميز "بتواجد" أبديّ ديجوري فاقد للمعنى.
وستتطور هذه الفكرة في النصوص اليونانية اللاحقة، من الفترة القديمة إلى الفترة الهيلينية، حيث تظهر قضايا واضحة صريحة مثل الحساب على السلوك البشري الحياتي، العقاب والثواب الموافق، خلود الأرواح، .....الخ.
يبحثُ الأدب الأفضل في أشكال الحياة والأفكار والمسلكيات والإعتقادات، ...الخ، أي قضايا مختلفة كثيراً عن مجرد معطيات جمالية مبسطة.
عندما يتم الحديث عن دوافع كونية، ستحضر في جميع الملاحم الشعرية الكبرى.
يتحد الأدب مع الدين بصورة جليّة في الثقافات القديمة، يشكل الإتصال بين الحياة اليومية والمستوى فوق البشريّ، أي في البعيد هناك "واقع" كوني، تنتظم فيه الإستعارة والرمزية من خلال الأسطورة.
تختبيء خلف تلك المعاني المتعددة وهذا الغنى المجتمعي:
حكمة واقعية لا يرقى إليها الشكّ، وتتجلى من خلال إنجازاتها الفنية الكبيرة، حيث تحضر خبرة القداسة بشكل أساسي فيها.
ففي الأوديسة، كما جلجامش، ومن خلال التركيز في رؤيتهما للجحيم، نقترب جداً من فهم نظرة تلك الشعوب إلى الزمن، الذي يتعمق في فكرنا نحن.
نوجز بحثنا هذا بكلمات، قد قالها هيغل، ووجهها إلى هوميروس بشكل خاص، ويمكن أن يطال معناها كثير من الأعمال الملحمية الكبرى، كما هو حال ملحمة جلجامش، على سبيل المثال:
"تقدم
جميع الملاحم الأصيلة صورة عن روح وطنية في حياة عائلية أخلاقية، عن ظروف عامة من حرب
وسلم، عن إحتياجات محددة، عن الفنون، عن الأعراف، عن الإهتمامات، أي صورة عن كل مرحلة
وكل صيغة إدراك بالعموم. تمثل معاً تاريخ العالم في أبعاده الحيوية والإنتاجية والملحمية.
بما يتعلق بالروح اليونانية، التاريخ اليوناني، أو على الأقل ما مثّله الشعب من مركز
إهتمام، لا يمكن تعلُّم شيء حيّ وبسيط عنه من أيّ مصدر مقارنة بما أنتجه هوميروس في
هذا المنحى".
هوامش
19. يقول جوزيف كامبل في كتابه "البطل ذو الوجوه الألف، تحليل نفسي للأسطورة": "دوماً، يرفع النداء الحجاب، الذي يغطي التجلي، طقس ما أو خطوة روحية ما، إن يتم القيام بها، فحتى تتساوى مع الموت ومع العودة إلى الحياة أو الولادة من جديد".
20. وفق الإعتقادات الرافدية، إختبأت الشمس ليلاً في نفق، لتعود وتظهر نهار اليوم التالي.
21. بحسب كلمات كانط، التي إعتمدها باجتين: "يُعرِّف كانط الزمان والمكان بوصفهما عنصرين أساسيين في كل معرفة".
قد يهمكم الإطلاع على مواضيع ذات صلة
رؤية أدبية "للجحيم" في ملحمتي الأوديسة وجلجامش (1)
رؤية أدبية "للجحيم" في ملحمتي الأوديسة وجلجامش (2)
رؤية أدبية "للجحيم" في ملحمتي الأوديسة وجلجامش (3)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق