نشرت مواقع دينية، من فترة قريبة (الحديث عن العام 2012)، مقالاً تحت عنوان "44 حقيقة علمية يؤكدها الكتاب المقدس"، قد لاقى صدى في كثير من المدونات والمواقع الدينية التي تأخذ الكتاب المقدس بحرفيته عادة. بالنسبة لشخص مُتمرّس في هكذا مواضيع، لن يمرّ المقال أبداً، لكن يمكن أن يُشكِّلَ مصدراً للتشويش لدى أولئك الذين لا يتعاطون بشكل نقديّ ومنفتحين على الإيحاء والتلاعب.
كنبوءات نوستراداموس، أو أيّ كتاب آخر للنبوءات حيث يمكن لغموض الكتابات، إلى جانب التفسيرات
المُتلاعَب فيها، تقديم سلسلة من المُصادفات الهامة زيادة عن الحدّ المألوف لكي تُنسَبُ
للصدفة أو نقص الدقّة. مع ذلك، لا يتسم المقال بهذا، كما سيبيِّن تحليلنا لما ورد فيه.
سنتناول في هذا الجزء "خمس حقائق"، على أن نتابع باقي الحقائق في مواضيع
أخرى قادمة لنكتشف حكمة كتاب كُتِبَ منذ أكثر من ألفي عام، والذي بحسب مؤلف المقال،
قد تقدَّمَ على المعارف العلمية التي توصل البشر إليها خلال القرون القليلة الأخيرة.
1. الحقيقة الأولى: سفر أيُّوب
26:7: الأرض مُعلَّقة في الفضاء. فيما تضع مصادر أخرى الأرض على ظهر فيل أو سلحفاة،
أو أنّها تستند إلى أطلس؛ تنبَّأ الكتاب المقدس بما نعرفه اليوم "ويعلق الأرض
على لا شيء".
تعرية
"الحقيقة الأولى"
(وفيما لو تركوه يواصل الكتابة، ربما لأوحى بمعلومات تطال براكين القمر آيو!).
حسناً، هذا مثال تقليدي عن التلاعبات وانتقاء العبارات. ففي سفر أيوب الإصحاح السادس والعشرون، الآية السابعة (الإشارة الوحيدة في الكتاب المقدس حول "تعليق" الأرض) لا تقول بأنّ كوكبنا عبارة عن كرة صغيرة معلقة في الفضاء وتدور حول الشمس. تقول الآية: "يمد الشمال على الخلاء، ويعلق الأرض على لا شيء"، وهو شيء غامض للغاية ويتفق مع أساطير قديمة ظهرت في الشرق القديم، في مصر وبابل، والتي كان لها تأثير هائل بمضامين الكتاب المقدس.
حتى التأكيد على أنّ "مصادر أخرى" قد وضعت الأرض على ظهر الفيل أو السلحفاة، أو الإشارة إلى أسطورة أطلس اليونانية، هو تشويه للتاريخ، إن لم يكن جهل بالأساطير القديمة. فهو يحاول الإيحاء بأنّ الكونية العبرية قد اختلفت عن باقي الكونيات، وهو أمر خاطيء كليّاً. فأسطورة الأرض المستندة على أربعة فيلة واقفة على ظهر سلحفاة هي أسطورة هندوسية قديمة ولا تعكس التصوّر العام الذي ساد قديماً. من جانب آخر، لم يحمل اطلس الأرض على كتفيه، بل حمل الأعمدة التي رفعت السماوات. فصورة العملاق الحامل لكرة ضخمة أرضية هي تفسير حديث لا يتوافق مع الأسطورة الأصلية.
سواء كان الكتاب المقدس أو الكونيّات القديمة التي غذَّتهُ (سيما المصرية والبابلية) فهي قليلة الوضوح لناحية بنية الكون، حيث أنها تخلط بين علم الكون وعلم نشأة الكون وتنشغل أكثر بهذا الأخير.
مع هذا، بتحليل آيات كثيرة أخرى من الكتاب المقدس، كما يُشيرُ الخبراء، فإنّ التصوُر العام لمؤلفي العهد القديم قد كان ذات تصوُّر المصريين والبابليين.
كما يُشير هيلج كراج (2008):
"الأرض المسطحة، على شكل قرص، مُحاطة ببحر؛ يوجد آبار وينابيع تحت الأرض وتتصل بالقسم العلوي منها، هكذا كما هو الحال مع الهاوية الكبرى، المسماة تيهوم أو تيعوم Tehom. ترتاح الأرض على أعمدة وفوقها السماء أو القبة الزرقاء. لا تحضر المياه في الأرض فقط أو تحتها، بل كذلك فوق القبة الزرقاء".
تصوُّر شبيه، عملياً، بالتصوُّر المصري والبابلي، الذي يُقدّم الأرض على شكل قرص أو أسطوانة محاطة بالمياه التي تواجدت السماء عليها، ووُجِدَ العالم السفلي أو الهاوية، مع اختلاف بالأسماء بحسب كل ثقافة.
كما أشرنا، تتسم الروايات المصرية والبابلية والعبرية بالغموض والخلط بين الصفات الشخصية لكل إله من الآلهة مع الصفات التي حدَّدت المياه والأراضي أو السماوات، وكذلك لا يجب البحث عن طروحات واقعية حول الكون في تلك الكتابات، وهو شيء تحاول عقليتنا الحديثة العثور عليه فيما بين السطور، لكن لم تكن كما تمنى أولئك الكُتّاب القدماء بأن تعكسه.
بالتالي، لا تُشكِّل نظرة الكتاب المقدس حدثاً ثورياً ولا تتفق مع معرفتنا الراهنة المرتبطة ببنية النظام الشمسي والكون، بل هي مندمجة بمحيطها التاريخي، حيث ورثت القسم الأكبر من مضامينها.
2. الحقيقة الثانية: رسالة
بولس إلى العبرانيين 11:3 يتكوَّن الخلق من جزيئات ذريّة، لا تراها أعيننا. لم يُكتشَفُ
أن كل مادة مرئية متكونة من عناصر غير مرئية حتى القرن التاسع عشر.
تعرية
"الحقيقة الثانية"
(لا ينقص سوى الحديث عن بوزون هيغز!)
تقول الآية الثالثة في الإصحاح الحادي عشر من رسالة بولس إلى العبريين: "بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله حتى لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر".
استنتاج الكاتب من هذه الآية الحديث عن ذرّات يعكس قدرة على التخيُّل تتجاوز
قٌدُرات كاتب القصص الخيالية جون رونالد تولكين.
هذا
هو ما أُطلِقُ عليه "التفسير الحُرّ لنوستراداموس": غامض يمكن تكييفه مع
ما يناسبنا، على سبيل المثال:
- تحقق الخلق اعتباراً من الأثير (غير مرئي) الذي يتخلَّل الكون (كتاب مقدس أرسطيّ!).
- تحقق الخلق اعتباراً من ظهور المادة العادية (مرئية) من خلال المادة المُظلمة (غير مرئية) (كتاب مقدس فلكي فيزيائي!).
- تحقق الخلق بتحويل بابا نويل
ووعوله (غير مرئية) إلى نجوم وكواكب (مرئية) (كتاب مقدس ميلاديّ لابيني اسكندينافي!).
من جانب آخر، تجدر الإشارة إلى أنه –وبعكس ما تُشير له الآية – تعود أوائل الإشارات إلى الذرات أو العناصر غير المرئية إلى الذريّة الهندية واليونانية، خلال القرن السادس ق.م وما يليه، حيث أنها أضحت أوضح مما ورد في تلك الآية القداسية.
3. الحقيقة الثالثة: سفر التكوين
6:15 أبعاد دقيقة لاستقرار السفن. يعرف بُناة السفن جيداً بأنه لكي تطفو سفينة يجب
أن يكون طولها مكافيء لستة أضعاف عرضها. يجب الاهتمام بما أعطاه الله من قياسات مثالية
لسفينة نوح قبل 4500 عام.
تعرية
"الحقيقة الثالثة"
(ألم يقل شيء حول المركبات الفضائيّة!)
يوجد الكثير من التسرُّع حين يؤكد الكاتب بأن نوح قد أبحر قبل 4500 عام، علماً أن الكتاب المقدس يتحدث عن إبحاره دون ذكر زمن الإبحار، وهو أمر يجب أخذه بعين الاعتبار بداية. يعني هذا بأننا لا نستطيع معرفة الأبعاد الموجودة بزمن أقدم من زمن الوثيقة ذاتها، أي في حالة سفر التكوين تعود للفترة الممتدة بين 900 و500 ق.م ولم يبلغ شكله الحالي حتى العام 500 ق.م أي قبل 2500 عام.
لا تُعطي رواية الكتاب المقدس معلومات حول بنية السفينة وإنما حول أبعادها فقط، المناسبة لأجل أن تعوم على سطح المياه دون أن تنقلب ومع القليل من أو عدم القدرة على المناورة. هذا أمر معقول: فالسفينة لم تكن مصممة للإبحار بل للعَوْم حصراً. فمن غير الصحيح أن السفينة لكي تعوم تحتاج إلى تناسب الطول مع العرض بمقدار 6 إلى 1. من هنا، تتنوع العلاقة في هذه النسبة بين الطول والعرض لنجد سفن 12 إلى 1 أو 3 إلى 1 أو 8 إلى 1. في حين تتميز ناقلات نفط بتصميمها بناء على النسبة 6 إلى 1 الشبيهة بنسبة سفينة نوح.
في زمن كتابة سفر التكوين، كان قد مضى على استخدام الفينيقيين والمصريين والمينوسيين والميسونيين للسفن أكثر من ألف عام عبر البحر الأبيض المتوسط، وبنجاح بالغ. نقلوا البضائع، وبالتالي، امتلكوا معارف هامة حول بناء السفن الخاصة بالتجارة والنقل والحرب وفهموا نسبة الطول والعرض كفاية. على سبيل المثال، أحد مراكب الفينيقيين بخليج ماثارون، متخصص بنقل سبائك الرصاص، تبلغ قياساته 8.20 متر طولاً و2.20 متر عرضاً (النسبة 3.7 إلى 1)، وهي النسبة المناسبة لوزن الحمولة التي ينقلها.
4. الحقيقة الرابعة: سفر اللاويين
15:13 الاغتسال في المياه الجارية. على مدار قرون، اغتسل الأشخاص، بسذاجة، في مياه
راكده، لكن اليوم تُعرَفُ الحاجة لمياه نظيفة لتفادي الإصابة بالإنتانات.
تعرية
"الحقيقة الرابعة"
(رمسيس الثاني: اغتسلوا في
مستنقعات آسنة، يهبط نهر النيل نظيفاً جداً هذا الصباح ...)
في الواقع، حضر الاغتسال بمياه جارية منذ قبل ظهور الكتاب المقدس بآلاف الأعوام من الهند وصولاً إلى أوروبة مروراً بشرق المتوسط، الذين عرفت قصورهم تمديدات المياه الصحية حتى وفي بعضها وُجِدَت المياه الساخنة! فمن غير المنطقي ولا المعقول اعتبار أن الناس استحمت أو اغتسلت في مياه راكده أو مستنقعات إلى أن ظهر سفر اللاويين عبر تلك الآيةَ!! حتى مُصطلح صحة higiene, higiene لا يرد أصله من الكتاب المقدس بل من الإلاهة اليونانية هيجيا Higiea إلاهة الصحّة والوقاية من الأمراض.
5. الحقيقة الخامسة: سفر التثنية
12-13: 23 صناعة صحيّة. أمر الله / يهوه شعبه بحمل عود لكي يتمكن من تغطية برازه. يُشيرُ
السجل التاريخي للحرب العالمية الأولى إلى موت كثير من الجنود بسبب العدوى جرّاء عدم
إقصاء الفضلات البشرية.
تعرية
"الحقيقة الخامسة"
(يعرف الجميع بأنه حتى بعد الحرب العالمية الأولى، يُترَكُ البراز مكشوفاً بأيّ مكان ...)
حسناً، على الأقلّ لم ينسبوا للكتاب المقدس ابتكار العصا أو العود وهذا شيء جدير بالتقدير!
عزيزي، قبل نصيحة سفر التثنية، وقبل الحرب العالمية الأولى بكثير، فقد بنى الاسكتلنديون الحمّامات (المراحيض) قبل 10000 عام. هل يعتقد المؤمنون بأنّ الفينيقيين واليونانيين، بين غيرهم، قد نفَّذوا خروجهم لطرح فضلاتهم في الشوارع؟ إن مسألة طمر الفضلات قديمة قِدَم الحضارة ذاتها؛ عملياً، استخدمت جميع الثقافات طريقة ما لإبعاد الفضلات.
من
أهم العوامل التي فاقمت مشاكل مرتبطة بالصحة حتى القرن التاسع عشر (وحتى بعد هذا التاريخ):
هو تراكم السكان في مراكز المدن دون وجود بنية تحتية مناسبة للتخلُّص من الفضلات. وحدث
هذا في مجتمعات مسيحية، لكن من الصعب على شخص قد عاش في باريس خلال القرن الثامن عشر
طمر برازه بواسطة عصا أو عود!
تعليق
فينيق ترجمة
مع
العلم أن الموضوع يعود للعام 2012 إلّا أنه يطرح نقاط ستبقى مثار جدل وأخذ وردّ؛ الجدل
البيزنطي هو التوصيف الواقعي للحوارات الدينية اللادينية بالعموم، رغم هذا، فقد ثَبَتَ
بأنَّ لها تأثير كبير على القُرّاء غير المشاركين في تلك الحوارات وعددهم هائل بكل
الأديان. يعتمد مسلمو الإعجاز العلمي ومُعصرِنو آيات القرآن، إذا جاز التعبير، على
مواضيع كهذا الموضوع، أي المصادر الخلقية الأميركية والأوروبية؛ الرد على المصادر أقوى
بكثير من الردّ على "نسخ لصق" إسلاميّ!
على
أمل الاستفادة وتحقيق فهم أفضل والعقل وليّ التوفيق!
وشكراً جزيلاً
قد يهمكم الإطلاع على مواضيع ذات صلة
نقد "44 حقيقة علمية يؤكدها الكتاب المُقدّس" .. الجزء الثاني
نقد "44 حقيقة علمية يؤكدها الكتاب المُقدّس" .. الجزء الثالث
نقد "44 حقيقة علمية يؤكدها الكتاب المُقدّس" .. الجزء الرابع
نقد "44 حقيقة علمية يؤكدها الكتاب المُقدّس" .. الجزء الخامس
نقد "44 حقيقة علمية يؤكدها الكتاب المُقدّس" .. الجزء السادس
نقد "44 حقيقة علمية يؤكدها الكتاب المُقدّس" .. الجزء السابع
نقد "44 حقيقة علمية يؤكدها الكتاب المُقدّس" .. الجزء الثامن
نقد "44 حقيقة علمية يؤكدها الكتاب المُقدّس" .. الجزء التاسع والأخير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق