في منطقة فلسطين – سورية، خلال عصر الحديد، إستهلكوا البقوليات والحبوب، وعلى شكل خبز بصورة رئيسية، حيث بلغت نسبتها من 53% إلى 55% من النظام الغذائي للشخص البالغ. لا يمكننا الحديث بهذه الدقة عن مستوطنات الفينيقيين الإيبيرية، لكن، بالإعتماد على السجلات الحيوية الأثرية، وما كشفته بقايا مطاحن حبوب بتلك المستوطنات، شكّل طبخ الحبوب القاعدة الأساسية للغالبية العظمى التي سكنت فيها. حيث تبين الآثار بأنّ تلك البقوليات والحبوب، قد جرى تحضيرها بصورة رئيسية عبر الغلي والطبخ، وبصورة أقلّ على شكل خبز وكعك.
تُشير السجلات الأثرية النباتيّة للمستوطنات الفينيقية الإيبيرية، والمنشورة حتى الآن، لأنّ الشعير قد شكّل نوع البقول والحبوب الأكثر إستهلاكاً، ويظهر القمح بالمرتبة الثانية فقط. كذلك، الشعير والقمح، هما أساسيّان في الإنتاج والاستهلاك بمنطقة بلاد الشام، بحسب كثير من السجلات الأدبية القديمة والسجلات الأثرية.
تُشير الأدلة النباتية الأحفورية المتوفرة وأدوات وأجهزة تحضير الطعام عدم توافق نظام تناول الطعام اليومي، كطريقة تحضير الطعام لدى غالبية سكان المواقع الفينيقية الايبيرية، مع التفضيلات الغذائية للنخب الفينيقية المشرقية، التي تواجدت بمدن شرق المتوسط الفينيقية. كما تُشير الأدلة الحيوية الأثرية لإستهلاك اللحوم في المستوطنات والمواقع الفينيقية المشرقية كلحم الخنزير وأنواع لحوم حيوانات برية أخرى. كما تشير المصادر الأدبية، التي ظهرت بتلك الحقبة إلى إستهلاك تلك اللحوم في مدن، بلدات وقرى منطقة بلاد الشام، والتي إرتبطت، على ما بدا، بمجموعات إتنية و / أو إجتماعية محددة جداً.
يرى بعض الباحثين حضور معارف هامة حول النظام الغذائي النباتي واللحومي لدى سكّان المواقع الفينيقية الإيبيرية وسكان قرى أصلية معاصرة في المنطقة، وحتى قبل إقامة الفينيقيين بالمنطقة. ويعود حضور تلك المعارف كاستجابة تكيفية للظروف البيئية الإيبيرية، بالإضافة إلى توظيف قوة العمل المحلي في مناطق الزراعة بالمواقع الفينيقية. إلى هذه التنوعات الإنتاجية، يمكننا إضافة عوامل مثل زراعة وإستهلاك الشعير بصورة تفضيلية لدى سكّان تلك المواقع مقارنة بالقمح، ويعود هذا إلى علاقات التبادل بين السكان المحليين وسكان المواقع الفينيقية الإيبيرية.
إلى جانب هذه العوامل ذات الطبيعة الإنتاجية، يوجد عوامل أخرى ذات طبيعة إجتماعية توحي بأرجحية حضور الشعير بكثير من السجلات الأحفورية النباتية في المواقع الفينيقية الغربية. حدث هذا التفضيل باستهلاك الشعير من قبل غالبيّة، على الأقل، لدى قسم من تلك المجموعات التي سكنت منازل المواقع الفينيقية الإيبيرية. يُعتبر هذا العامل الإجتماعي والثقافي في إنتقاء الأغذية المُستهلَكِة بالغ الأهمية، آخذين بالحسبان لأنّه بكثير من تلك البيئات، لم تتوافق مُكونات الأطعمة مع التفضيلات المحلية فقط، بل، كذلك، توافقت مع تقنيات وطرق التحضير والطهي. فمن قام بتحضير تلك الأطعمة، في الغالب الأعمّ، قد اختار المواد المناسبة أكثر في تلك التقاليد المطبخية.
1. "في مثل هذا الوقت غداً تكون كيلة الدقيق بشاقل، وكيلتا الشعير بشاقل في باب السامرة". سفر الملوك الثاني، الإصحاح السابع، 1.
مطابخ، نساء وسلطة إجتماعية
في غالبية المجتمعات البشرية، أعمال تحضير الطعام والطبخ محددة إجتماعياً. يخضع الدخول إلى تعلُّم، المعارف والمؤهلات والتقنيات اللازمة بتحضير الأطعمة، لقواعد إجتماعية وثقافية تتبع معايير العمر والجنس، بصورة رئيسية، ويمكن أن تتنوّع من سياق إجتماعي ثقافي إلى سياق آخر. حتى الأحاسيس التي تتدخل لحظة تقييم طبق بوصفه مُنتج إجتماعي ومقبول ثقافياً، لا تُعرّف بوصفها قيم حسيّة – روائح، أذواق، قوام ومظهر – فقط، بل، كذلك، تُعرّف كقيم إجتماعية وتتصل بما يُتعلَّمْ كأوائل الأشياء خلال مرحلة الطفولة، حيث تتصل بمن يتدخل بتحضير وجبة طعام محددة وكيف ومع مَنْ تؤكل.
لدينا القليل من المعلومات التي تطال القواعد الإجتماعية والفوائد الجنسية الناتجة عن تحضير الأطعمة في المجتمعات الأصلية جنوب شبه الجزيرة الايبيرية ببدايات عصر الحديد، حيث تندر الأبحاث بهذا النطاق، لكن، لدينا بعض التفاصيل المهمة حول هذا الأمر في منطقة فلسطين – سورية خلال الألفية الثانية والأولى قبل الميلاد. توحي المعطيات الأثرية، الأيقونية والأدبية، كالاشارات الدائمة التي تظهر في العهد القديم، بأنه في تلك المنطقة وفي النطاق المنزلي، قد وقع عبء تحضير وطبخ البقوليات – ما يعني، قاعدة النظام الغذائي اليومي لغالبية سكان تلك المنازل، باستثناء النخبة ربما – على كاهل النساء. هناك بعض المعلومات المأخوذة من نصوص، تُشير بوضوح لإسهام الرجال بتحضير الخبز، لكن، تُشير الأمثلة المختلفة المعروفة لأنّ إنتاج الخبز قد حدث بغالبيته العظمى بصورة متخصصة وخارج المنازل. وهذا هو الحال مع منتجات غذائية أخرى، أو حتى إنتاج تجاري محتمل ببعض الملامح المدنية – بضع منشآت غير موثقة أثرياً حتى تاريخه في نظاق المستوطنات – أو إنتاج الخبز من قبل قسم من الكهنة، كي يقدموه لآلهة محددة.
قامت النسوة بأعمال طحن، تحضير وطبخ الحبوب في منازل المنطقة الكنعانية. ولهذا، نقلت النساء كل المعارف الخاصة بتلك الأعمال وتقنياتها، بصورة رئيسية، إلى نساء أخريات وإلى أجيال جديدة. جرى اعتماد هذا النظام الجنسي بالعمل – سواء كان بإصدارات متوافقة أو مضادة لأنظمة جنسية أخرى – في المواقع والمستوطنات الفينيقية في الأراضي الغربية، وجرى نقلها للمتحدرين فيها. ولو أنه يجب القيام بعمل أكبر بهذا المنحى، يمكن القول بأنّ القسم الأكبر من التقنيات الغذائية التي نعثر عليها في منازل المواقع الفينيقية الإيبيرية، سيحدثنا عن بعض النسوة اللواتي عشن فيها وعن العلاقات المنزلية والعائلية التي حضرت. تبين لنا تقنيات تحضير الطعام والأنظمة الغذائية اليومية صور التعايش بين تلك النسوة الأجنبيات من مختلف الأصول الإجتماعية والثقافية. ففي المواقع الفينيقية الإيبيرية، نساء من أصل مشرقي، عشن سويا مع نساء محليات وخلاسيات، وبمراجعة دورهن الأساسي في التغذية اليومية لمجموعاتهم المنزلية، نجد أنهم قد عملن، بكثير من الأحوال، كزوجات – أمهات، وهو إسهام يجب فهمه إنطلاقاً من وجهة نظر إجتماعية لا بيولوجية.
الدور المركزيّ لتلك النسوة بتحضير وتوزيع الطعام اليومي لأعضاء جماعاتهن المنزلية – على الأقل بتلك الجماعات، التي لا تنتمي للنخب الاجتماعية وهي الغالبية – قد زودهن بدور بارز هام – ومهما كان أصلهن – في جماعاتهن المغتربة. تعكس سلطة النسوة الإجتماعية أمر التفضيلات بالعلاقة بقواعد إستهلاك الأغذية، التي رأيناها بتلك المستوطنات – مع تبعات محتملة، كذلك، بذات الإنتاج البقوليّ – أو باستمرار توظيف تقنيات ومعارف مطبخية ذات تراث محلي خلال قرون بتلك المواقع. كما في المواقع الفلسطينية – السورية، وغالباً كذلك، في المجتمعات المحلية الغربية – على الرغم من قلّة المعرفة بهذا النطاق الجغرافي الجديد – فلدى النسوة مكانة كبرى تبعاً لدورهن، وهُنّ اللواتي وظفن بنشاطات مركزية ضرورية لرفاه عائلاتهن الإجتماعي والإقتصادي، وبالتالي، لمجتمعاتهن. نسوة من أصل مشرقي، أصيلات أو هجينات، قد تحملت عبء الاهتمام بالجماعة، اشتغلت في عمليات إنتاجية شاركت بها مجموعات عائلية، وغالباً كذلك، كما تبين الوثائق في العالم الكنعاني، قد ساهمت وضبطت مشاهد أساسية في الحياة الدينية والطقسية المنزلية.
بينت أبحاث حديثة أهمية دور النسوة في منطقة فلسطين – سورية في المنزل قدوة وتوجيهاً في إحتفالات عائلية وطقوس متنوعة متعلقة بدورة الحياة – ولادة، بلوغ، صحّة، زواج، غنى، ...الخ -. جرى تطبيق كثير من تلك الإحتفالات والطقوس العائلية والمنزلية في المواقع الفينيقية الغربية. في بعض منازل المستوطنات الفينيقية الغربية، نعثر على بقايا أثرية تُجسّد تلك النشاطات، فعلى سبيل المثال، نجد بقايا فخّار صغيرة، مباخر أو أواني حرق زيوت عطرية، كوّات تهوية، بيوض نعام، بالإضافة لأواني طهي مطمورة بتربة أرضية تلك المنازل، أحياناً، فارغة، وبأحيان أخرى، مليئة ببقايا طعام، الأمر الذي يُعيدنا مجدداً إلى الأغذية ودورها كتجسيد ووسيط في بناء العلاقات الإجتماعية، وبهذه الحالة، مع كائنات متواجدة في فضاءات أخرى، مثل الأرواح، الآلهة، الموتى والأسلاف.
قبل التحرّي عن دور الأغذية في بناء أيٍّ من تلك العلاقات السماوية وتبعاتها على عالم الأحياء، يتوجب عليّ الإشارة لأنه في الإطار المنزلي، فكل تجسيدات الطقوس، تقريباً، نماذج مشرقية أُعيدَ تحضيرها محلياً، وهو مشهد مرتبط، كما سنرى، بوقت لاحق، ببناء الهوية الإستيطانية بتلك المواقع، وكذلك، بالهيمنة الإجتماعية والسياسية، التي حافظ أشخاص وجماعات "تحتفظ بقرابة مشرقية" في تلك المستوطنات معها. يوجد، مع هذا، إستثناء هام بهذا الإتجاه، ربطاً بممارسات طقوسية منزلية متصلة بتحضير الطعام بالتحديد، كحالة أواني الطهي المدفونة بأرضية المنازل. في كثير من تلك الأوني – إن لم يكن كلها – مزايا تقنية وشكلية تُشير إلى "فنون طهي" محلية، وبالتالي، يعيدنا حضورها إلى طرح موضوع السلطة الإجتماعية التي تحدثنا عنها أعلاه وبما يخصّ النسوة المحليات أو الهجينات وسلوكهن اليومي بمجموعات منزلية محددة، قد سكنت تلك المواقع الإستيطانية الفينيقية الغربية، وكما سنرى، ستختفي في تمثيلات مرتبطة بالطعام وتمتلك مشاهد شعبية عامة أكثر.
موتى، أسلاف وأغذية
لأجل كلّ هذا، التطبيقات الغذائية بتلك الفضاءات الطقوسية مصدر هام في بناء الذاكرة، في خلق التمييز وفي التفاوض (وإعادة التفاوض) حول العلاقات الإجتماعية والسلطة.
يبدو أنه في العالم الفينيقي الغربي، قد حضر بناء الذاكرة هذا، والتضامن والعلاقات، بتراث مجموعة قليلة جدا من سكّان تلك المواقع. فالمواقع الفينيقية الإيبيرية، ذات الفضاءات الجنائزية الخاصة، قليلة.
هذا ما يوحي به عدد القبور القليل، الذي نجده في تلك المقابر، التي يُعثر بها على كثير من البضائع، المواد أو البيانات التي تذكرنا بقبور النخب المشرقية، والذي يبيّن عدم الإنسجام الإجتماعي، الإتني والثقافي الذي حاولنا رسمه من خلال "المطابخ والأطعمة" في المواقع الفينيقية الإيبيرية.
الطقوس الجنائزية أو الإحتفالات الإجتماعية بنطاق المقابر، بالتالي، تعود فقط إلى بعض الموتى المحددين، الذين انتموا لبضع عائلات عاشت في المواقع الفينيقية الغربية.
في المدافن الحديثة الغربية، تسمح لنا المعطيات الأثرية المتوفرة باكتشاف حضور نوعين من التطبيقات الخاصة بالأطعمة مختلفين كلياً، حيث لعب الطعام فيهما دور رئيسي هام.
اللغة الفينيقيّة – الجزء الأوّل
اللغة الفينيقيّة – الجزء الثاني والأخير
الثقافة الفينيقيّة - الجزء الأوَّلْ
الثقافة الفينيقيّة - الجزء الثاني والأخير
أغذية، سلطة وهويّة المجتمعات الفينيقية الغربية - الجزء الأوّل
أغذية، سلطة وهويّة المجتمعات الفينيقية الغربية - الجزء الثاني
أغذية، سلطة وهويّة المجتمعات الفينيقية الغربية - الجزء الرابع والأخير
التغذية لدى الفينيقيين والقرطاجيين
إسهامات الفينيقيين والقرطاجيين في التغذية المتوسطية
فينيقيُّون في البرازيل - الجزء الأوَّلْ
فينيقيُّون في البرازيل - الجزء الثاني
فينيقيُّون في البرازيل - الجزء الثالث والأخير
ساهمت أساطيل الفينيقيين بنشر المعرفة بكثير من المنتجات - بقلم: نوريا باغينا
كيف وصل الفينيقيُّون إلى أميركا الجنوبيّة؟ - الجزء الأوّل
كيف وصل الفينيقيُّون إلى أميركا الجنوبيّة؟ - الجزء الثاني
كيف وصل الفينيقيُّون إلى أميركا الجنوبيّة؟ - الجزء الثالث والأخير
قصّة أليسار (ديدو) وتأسيس قرطاجة الفينيقيّة
أسماء مصر القديمة المُستخدمة في فينيقيا
نظرة عامة حول ملابس الفينيقيين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق